الثلاثاء، 18 فبراير 2014

روسيا وتغيير البوصلة !

نشرت بالبديل بتاريخ 15 فبراير , 2014
http://elbadil.com/2014/02/15/%D8%A3%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%89-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D9%88%D8%B5%D9%84%D8%A9/


" وهو يعنى روسيا اللى هتخرجنا من التبعية الأمريكية؟ "
" شوف مرسي استقبلوه ازاى والسيسي قابلوه ازاى وانت تحكم "
" السيسي منظره كان بيشحت من بوتن "
" بتعمل علاقات مع روسيا؟ عايزنا نبقى زى سوريا يعنى؟ "
" وأخيرا ، مصر خرجت من التبعية الأمركية بعد زيارة السيسي لروسيا "
كلمات رأيتها فى كافة وسائل الإعلام وبعضها وللأسف من " محللين سياسيين " و " خبراء استراتيجيين ! " إنها نفس طريقة التفكير التى خرجت علينا فى ذكرى إسقاط مبارك بأنه كان مقاوما للأمريكان ومتصديا لمخططاتهم فى مصر والمنطقة من مجرد تصريح الوزير الأسبق أحمد أبو الغيط إن مبارك " زعل شوية مع بوش الابن " !!
نفس السطحية المفرطة فى عدم التفريق بين الحركات الفلسطينية المقاومة للكيان الصهيونى والحركات الإرهابية التى صوبت أسلحتنا صوب المدنيين فى مصر ،هى بعينها العقليات التى اعتبرت مجرد " الحوار الإيرانى الأمريكى " بخصوص الخروج إلى تسوية فى مسألة امتلاك إيران للتكنولوجيا النووية ، أن التطبيع الإيرانى الأمريكى قادم والاعتراف الإيرانى بالكيان الصهيونى أصبح " عالإمضا "
كل منا يمتلك قدرة بسيطة على انتزاع توجهات أو سياسات جهة معينة من رصد مجموعة من مواقفها ؛ هذا الرصد لمجموعة المواقف إذا تم بصورة إحصائية عمياء فنحن هاهنا أمام استقراء ينتج عنه نتيجة مفادها مثلا " مصر تخلصت من التبعية الأمريكية " وذلك قد يظهر فى عدة مواقف منها  التخلص من السيناريو الأمريكى لطوأفة مصر وتفكيك نسيجها المجتمعى ، والثانى هو زيارة وزير الدفاع لروسيا ومحاولة عقد صفقة تسليح روسية ، والموقف الثالث هو تطبيق الحد الأدنى والأعلى للأجور بما يوحى بالميل نحو العدالة الاجتماعية من منظور اشتراكى
فنسج الثلاثة مواقف مع بعضها يجعل المحلل " السياسي " يخرج بتلك النتيجة النابعة من استقراء معين ، ومشكلة تلك الطريقة فى توصيف الواقع دون الخوض فى " علة وسبب الإقدام على كل خطوة " ،أن من السهولة أن تستدل أمامها باستقراء آخر يفضى بنقيض تلك النتيجة وذلك بعمل تركيبة معينة لمجموعة مشاهد أخرى منها : اعتماد مصر على مساعدات سعودية وإماراتية وهما الدولتان المنبطحتان بالكلية لإرادة الأمريكى ، بل واحداهما – كما يقال – قد دخلت فى تمويل صفقة الأسلحة الروسية !! والمشهد الثانى هو فى تصريح المتحدث العسكرى بأن التفكير فى تعديل كامب ديفيد غير وارد ، كذلك فالعدالة الاجتماعية المراد تنفيذها على الأرض ستتم على يد الدكتور حازم الببلاوى الوزير الرأسمالى !! إلى جانب مشاهد استقرائية عديدة  سوء يسوقها لك الطرفان ليستمد كل منهما نتيجته ونظل فى النهاية نقف أمام حالة متواصلة من الصد والرد العقيم ..
إن كلمة " التحليل السياسي " تختلف كثيرا عن " الاستقراء " والذى هو رصد السياسات عبر التعيين الظاهرى للمواقف والممارسات دون تحليل متعمق أو دراسة متأنية واضحة لعوامل ومسببات كل تصرف وممارسة ؛ دون إغفال للحلقة التاريخية لسلسلة الممارسات والتصرفات السياسية تعبر فى صورتها الكلية عن بوصلة اتجاه وفلسفة النظام نفسه فى الإدارة السياسية ..
وحتى نخرج من هذا الكلام " المجعلص " فلنضرب مثالا قد ينجح فى توضيح ماهية التحليل السياسي .. إن توصيف " بوصلة النظام " فى مصر وطريقة إدارته السياسية لايمكن أن يرصد فقط من مجرد زيارة أو موقف أو " تصريح من عضو كونجرس " أو اجتهادات محلل سياسي فى الواشنطن بوست ، إنه أمر يتعلق أولا بفلسفة هذا النظام نفسه ونظرته للواقع الدولى وتقديره لما ينبغى عليه فعله خارجيا وداخليا ؛ من هنا ففلسفة النظام المصرى فى عهد الرئيس السادات اتجهت للأمريكى عندما عبر الرئيس الراحل عن فلسفته بشكل واضح أولا بأقواله " مفاتيح اللعبة بإيد أمريكا " " مستعد أن أذهب لإسرائيل من أجل السلام " وثانيا بتطبيقه نظام " الانفتاح " والتضييق على القطاع العام وعقده اتفاقية كامب ديفيد التى تحمل بنودها ضمنا وتصريحا أن مصر لم ولن تتفاوض باسم الكتلة العربية ، فلم تعد تمثل إلا نفسها .
والمحلل لمجموعة مواقف وقرارات النظام المصرى فى عهد السادات ومبارك ينبغى أن يقوم بالربط بين التصرف والسبب المؤدى له ارتباطا يقوم على التحليل المنطقى فيصدر فى النهاية حكما عاما بأن مصر اتجهت صوب الولايات المتحدة ،وأى توجه قادم فى السياسة والاقتصاد  لن يكون خارجا عن الخطوط الحمراء الأمريكية ، بالتالى فموقف زيارة مبارك للصين فى التسعينيات أو خلافه مع إدارة بوش الابن لن يكون مؤشرا على تغيير " التوجه والبوصلة والفلسفة " بأكملها .. بل هو خلاف طبيعى فى السياسات والإجراءات التفصيلية وتقدير المواقف ولكن المصالح المصرية الأمريكية ستظل محفوظة لايشوبها شائبة .. وهنا يبرز السؤال ماهى المصالح المصرية والأمريكية ؟؟
إن من جملتها تعهد مصر بالحفاظ على اتفاقية كامب ديفيد " أى أمن إسرائيل " ، واتجاه مصر الاقتصادى إلى تشجيع الاستثمار الأجنبى " الأمريكى والغرب أوروبى تحديدا " والتعامل المباشر مع المؤسسات الرأسمالية العالمية كالبنك الدولى وصندوق النقد والاستجابة لشروطهم فى تحسين الأداء الاقتصادى الداخلى ، والتعاون الكامل مع الأمريكى فى المجالين الأمنى والعسكرى ،بدءا الدورات التدريبية والمناورات المشتركة إلى الصفقات التسليحية التى تحتكرها الشركات الأمريكية ،بالإضافة إلى اعتبار أمريكا هى الورشة العلمية الكبرى التى يتدرب فيها أغلب الاقتصاديين والاستراتيجيين والسياسيين المصريين .. وماخفى كان أكبر !!
بالتالى فلن يضير بوصلة نظام لايتحرك خارج الإطار الأمريكى فى الاقتصاد والسياسة بل والتعليم أيضا ،توريد البطاطس إلى روسيا أو شراء معدات إلكترونية من الصين مثلا !! ليس هكذا نحكم بالكلية على أن النظام انقلبت فلسفته ورؤيته واستراتيجيته أو احتى انحرفت وتزحزحت من مرحلة الاعتماد على الأمريكى إلى مرحلة التوازن الإقليمى وهى المرحلة المحال الوصول إليها أصلا فى ظل هذا النظام الدولى الموجود ..
إن مطلب " إسقاط النظام " أو تغييره الذى بدأ فى ثورة يناير تعامل معه غالبية النخب حينذاك على أن النظام هو مبارك والتوريث وأحمد عز ومجموعة من رجال الأعمال الفاسدين والمنتفعين من النظام ، لم يتعامل مع فلسفة النظام وبوصلته وتوجهه الفكرى والاقتصادى والاجتماعى والسياسي .. حتى عندما نادينا وقتها بإسقاط كامب ديفيد أو التبعية للأمريكان  كان البعض يقولون لنا " اسكتوا " " مش وقته " ويمضون فى نفس الوقت مرددين " ثورة ثورة حتى النصر " أى ثورة تلك التى ستحافظون فيها على فلسفة النظام وبوصلته وتوجهه .. إنها ثورة " منزوعة الدسم " كما عبر عنها المهندس محمد سيف الدولة ، والدسم هنا هو تعبير عن العمق الذى أشرنا إليه عبر الفارق بين التحليل السياسي والاستقراء السياسي ، والأخير افتقد العمق فى تبيان ماهية النظام فكانت المحصلة النهائية هى مانراه الآن ...
نعلم أن التزحزح عن سيطرة الأمريكى ليس هينا ، وندرك بأن المسألة تتطلب وقتا ووخططا مدروسة ، ولكن يقتضى تحليلنا السياسي ألا نتعجل فى حكمنا على موقف الزيارة لروسيا ، فقد تكون إجراءا شكليا للضغط على حكومة " أوباما " بتأييد ماحصل فى مصر للنهاية مع الحفاظ على عمق العلاقات بين مؤسسات النظامين المصرى والأمريكى : كالمؤسسة العسكرية والاقتصادية والأمنية والاستخباراتية وغيرها ..
وقد يستتبعها سلسلة من المواقف " الفعلية " والقرارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية التى وبالتحليل سوف تتحدث لا عن تغير فى السياسات ، بل تغيير فى البوصلة والتوجه نفسه  
بعيدا عن " البصة " و" البدلة " وشكل البنطلون والضحكة والتكشيرة ، وبعيدا عن التطبيل والتهليل المفرط أو التشاؤم المطلق حول تفاصيل تلك الزيارة ، ما زلنا ننتظر تغيير " البوصلة " ...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق