الثلاثاء، 18 فبراير 2014

كوميديا سوداء !

نشر فى البديل بتاريخ 1-9-2013
http://elbadil.com/2013/09/01/%D8%A3%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%89-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%8A%D8%AA%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%B2%D9%8A%D9%82%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88/

الميتافيزيقا أو ما وراء الطبيعة هو مصطلح بات يطلق على من يؤمنون بالخرافات من جن وشياطين وديناصورات وقوى خفية ودراكولا وأسطورة الإله حكيم الخالق للكون والغير مرئى و .. أكذوبة مدينة فاضلة قابلة للتحقق .. لا تستغرب عندما يصنف المادى كل هؤلاء ومايحملونه من أفكار متباينة فى سلة واحدة يطلقون عليها " الميتافيزيقيون " والتى تعنى اصطلاحا " الخرافة " وأحيانا " المثالية " فى مقابل " الواقعية " التى يعنون بها المادية البحتة والتى تتمثل فى تصديق كل ما يرى بالحواس الخمس ويدرك بالتجارب وتكذيب كل مايتعدى ذلك
ولكن ما المقصود بـ " كل ما يتعدى ذلك؟ "
هو مصطلح " ما وراء المادة " أو " مابعد الطبيعة " ، فكثير من المفكرين وحملة الأديان " السماوية والأرضية " والروحانيين والفلاسفة يؤمنون بواقع " ماوراء المادة " بل ويرون فيه المحرك الأساسي للواقع المادى الذى نعيشه والبعد الأساسي الخفى الذى يعرف من خلاله حقيقة الإنسان والكون ، بل وحقيقة البعد المادى نفسه ..
لست فى معرض الحديث عن أصحاب الديانات ، فإيمانهم بواقع ماقبل الطبيعة نابع من النصوص الدينية باختلاف مصدرها وحجيتها وتواترها ، ولا أنا فى مقام المبرر للكشوفات الشهودية للروحانيين أو الخائضين طريق معرفة الحقيقة داخل النفس الإنسانية بالتصفية والتخلى ..
ولكنى أتناول قضية الميتافيزيقا بطريق الفلسفة وإعمال العقل ، العقل الذى اتخذه الماديون وسيلة لمعرفة أسرار الطبيعة وتسخير واقعنا المادى لمصلحة الإنسان ونفعه ، فأجادوا فى ذلك واكتشفوا الطاقات العميقة والمدفونة بداخل العقل الإنسانى والذى مكنتهم من تسخير الطبيعة لصالحهم فى شتى المجالات العلمية والإدارية .. والعسكرية !
وفى كل مرة يعتمد هؤلاء على العقل وقوة التفكير والتأمل لدى الإنسان ، يجدون الجواب الشافى عند تلك الأداة الإنسانية التى - وباعترافهم – لم يكتشفوا حدودها بعد  مثلما اكتشفوا حدود السمع والنظر والشم عند الإنسان وقارنوها بغيره من الحيوانات .. من هنا أتت موثوقية التجريبيين فى العقل الذى لم يخذلهم طرفة عين ، فبثقتهم فيه جعلهم يطيرون كما الطيور ويسبحون كما الحيتان ويحلقون فى الفضاء ويستشفون من أمراضهم ويفتكون بكل وسائل التهديد .. ولكن ثقتهم تلك فى العقل لم تتعد حدود مادية العقل وأن العقل والتفكير لايمكن أن يهتدى إلى قوى خفية وغامضة بمعزل عن المختبر واكتشافات الميكروسكوب .. حتما لا أدرى لماذا الحديث بكل ثقة عن استحالة إدراك العقل للميتافيزيقا؟ ولماذا الخلط بين المدركات العقلية والأساطير والتخاريف التى لايصدقها " نفس العقل " ! ولماذا التعميم البغيض وإدخال الفلاسفة رغما عنهم فى بحر ظلمات التخاريف والأساطير
فى الواقع إن البحث فى المعانى الحقيقية للأشياء يقتضى التعمق فى الشيء نفسه لمعرفة سره ، وما وراءه وهذه الخصيصة من شأن العقل أن يؤديها ، فالعقل قوة نفسانية مجردة عن التحيز والجهة ولم يستطع التجريبيون أنفسهم أن يجعلوا له حدودا وشكلا .. ولو كان العقل هو المخ مثلما يظنون لاستطاعوا تشريحة ومعرفة حدود تفكيره ورسموا إطارا له لايتعداه مثلما دعاهم ديفيد هيوم من قبل ، ولكن هيهات ، فالمجرد يستطيع إدراك المجرد والعقل طالما هو مجرد فإنه يقدر على الإحاطة بالماورائيات ، بالتالى فهو بطبيعته متجاوز للمادة وبسليقته مرتبط بالمعنى مهما حاول التجريبيون أن يجسدوه ويحدوه بحدودهم المادية التى عجزوا عن إثباتها حتى الآن ..
القضية الأساسية ولب الخلاف تناولته نظرية المعرفة من خلال كتابات جون لوك وطرحه السؤال المعرفى الأساسي : هل العقل متجاوز للحواس أم الحواس هى من تصنع العقل .. هل العقل قبل المادة أم العكس؟ هل العقل يستوعب المادة ويتجاوزها أم المادة تستوعب العقل وقد تتجاوزه؟ الحقيقة أن إجابة السؤال نفسه بيد العقل وحده ، فهو من يحدد وهو من يقرر وهو المعنى بالحديث والقادر على تحديد سلطاته جيدا
كيف بعقل أدرك – من خلال المادة – أن زيد وعمرو وإدوارد إنسان ، وأن الفيل والحصان حيوانات وأن الخشب والحديد جمادات؟ كيف بعقل أدرك من خلال العلاقات الإنسانية أن هناك عدل وظلم ، خير وشر ، جهل وعلم ، حنان وقسوة ورحمة وغضب وتسامح وحب وكراهية وكل تلك المعانى لم يرها مطلقا على هيئتها بل من خلال آثارها وصورها استنتج وجودها وبالتالى وضع بنفسه قاعدة " أن لكل أثر مؤثر " وأن صور القتل والفقر هى أثر للظلم الذى يمثله النظام الحاكم ؟ بالتالى فقد تجاوز العقل المادة بكل أشكالها وتعقيداتها ، فأدرك معنى الإحسان والعشق بدون أن يحسب مقادير الشحنات والطاقات السلبية ومدى تواجد الموجات الكهرومغناطيسية من عدمه ..
وكيف لجون لوك أن يحكم بأن المادة قبل العقل وأن العقل أسير للمادة من مجرد أن عقل الإنسان ينمو كنتيجة لنمو حواسه الخمس ؟ فتأخر النمو لايعنى أبدا إحاطة الحواس للعقل ، بل هو يعنى النضج وزيادة قدرات العقل ، فيولد العقل مع الحواس وينمو بنموها وبعد أن يصل الإنسان إلى مرحلة البلوغ والنضوج يتعاظم دور العقل ، فمن خلال المادة والحواس يقترب العقل من معرفة الأشياء بإطارها المادى ، ثم ينطلق بذاته بعد أن تقوى وتسطع ، فيتجاوز قوالب الحيز والجهة والأبعاد الثلاث إلى مادونها .. ومالعيب فى أن يكون عالم المادة هو العالم الذى من خلاله يتطور العقل وينمو ليحلق في مابعده .. فالحس وسيلة لايستغنى العقل عنها لكى يدرك .. ومجرد أسبقية الوسيلة عن العقل فى العمر لايعنى أبدا إحاطة الوسيلة بمن يستخدمها .. ففى الطبيعة ماوجد قبل الإنسان ومع ذلك استطاع هذا الكائن حديث العهد أن يتفوق ويستفيد بكل وسائلها ولم يتشائم التجريبيون ليقولوا باستحالة ذلك من مجرد أسبقية الطبيعة للإنسان ، بل كان الأمل والثقة فى عقولهم باعثا لهم على البحث والتحقيق فنجحوا .. ولكن الأمل والدافعية غابا عندما تكلم أرسطو عن المحرك الأول " غير المرئى " فانطلقت سهام التشاؤم فى كتاباتهم المليئة بالمغالطات المضحكة من نوعية " أسبقية الحس على العقل ! واستحالة تجاوز العقل للمادة !َ! "
إن مشكلة الماديين هى السطحية بعينها ، سطحية الاعتراف بأن العقل أسير لحواسنا المحدودة وتجاربنا التى وإن نجحت فإنها مازالت تحبو فى عالم الطبيعة ، سطحية إنكار أن ثمة إله حكيم ومدبر خلقنا لأجله وأجلنا .. أراد أن نعرفه فخلقنا .. من أجل أن نذوق طعم إدراكه فننعم بسعادة لاتوصف وبهجة لاتقيسها كهرومغناطيسيتنا ونشوة خارجة عن إطار الضحك والابتسامة وسرعة ضربات القلب ، أقول ذلك وفى ذهنى الأطروحات الساذجة والتافهة التى يخوض فيها التجريبيون على غرار " وهو خلقنا وسايبنا ليه؟ " " كيف يرضى بتلك المذابح؟ " فماذا يفعل لك الإله وهو الذى وهب لك مقومات السباحة وأرشدك إلى مافى السباحة من خير وسعادة وأرسل لك من يعلمك ولكنك أبيت إلا أن تغرق ، فأرسل لك المراكب والأشرعة لتنهض وتنجو وأنت مصر على الغرق بل وترى فى غرقك سعادتك بل وأنت ماض فى الوحل تخط صحفا وتملأ الأوراق ألفاظا عن " فلسفة الغرق " وبعدما تتسبب بغبائك وغيك فى غرق الجميع ، تتألم لذلك المنظر فتسأل سؤالك الأبله " هو ربنا ازاى سايبنا نتظلم كدا؟ " هذا حال بعض من التجريبيين المنتفعين الذين أنكروا عقلانية وجود الإله والأخلاق والقيم فنزعوها من سياساتهم وسخروا الطبيعة لمنفعتهم واستعملوا الإنسان كسلعة تدر عليهم أرباحا ، فغزوا واستعمروا ونهبوا ومنعوا باقى البشر من الاستفادة من خيرات الطبيعة فصنعوا أكذوبة " ندرة الموارد الطبيعية " وقسموا غنائم الطبيعة قهرا فيما بينهم وألقوا فتاتها إلى باقى دول العالم .. وبدلا من أن ينتفض العقلاء ضدهم ليعيدوا الإنسان إلى حريته المفقودة وقف أشباه المفكرين موقف العاجز أو الجاهل أو قل المتشائم ، فوجهوا ألسن التجريح إلى الذات الإلهية وأشهروا نكاتهم المبكية فى وجه العقلاء ووصموهم بالجنون تارة والتخريف تارة أخرى .. نعم فمن السهل عليهم واليسير على حياتهم البائسة أن يهربوا من مواجهة أرباب الفلسفة المادية والاتجاهات الإمبريالية وهم المتسبب الحقيقى فيما وصلنا إليه من بؤس ، وأن يفرغوا خيابتهم وطاقاتهم السلبية النابعة من جبنهم أو جهلهم نحوه هو – جل شأنه  .
حقا إننا نعيش عصرا كوميديا تعلو فيه صرخات الأطفال الماديين لتخمد أصوات العقلاء الناضجين ، كل ذلك من أجل إشباغ رغبات حفنة من رجال الأعمال الإمبرياليين أصحاب المؤسسات الكبرى المتحكمة فى الإعلام والسياسات الدولية والاقتصادية .. والأفكار أيضا ، ولكن ذاك الوضع لن يدوم فالطفل حتما سينمو ويبلغ ، والزعيق سيهدأ والكوميديا ستصير سوداءا والعقل سيعلو ويرتفع ويبنى مدينتة الفاضلة ، فهكذا الحياة .. الصغير فيها يكبر ليدرك الحقيقة التى سطرها أبو عبد الله الحسين بن رسول الله ص " عميت عين لاتراك عليها رقيبا ، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا "  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق