الجمعة، 18 يوليو 2014

الطريق من فلسطين

منشور بالبديل الأسبوعى، عدد 26 بتاريخ 16-7-2014



إذا كانت قضية البغدادى انتظار المبايعين له بالخلافة لإعلان الحرب المقدسة على باقى "المسلمين " والعرب فالعذر كل العذر له لئلا يبعث جنوده المجاهدين " أسود السنة وأشاوس التوحيد " لكى يقاوموا الصهاينة وينصروا فلسطين !
أما الاخوان فى مصر المجاورة؛ بل الملاصقة لغزة المنكوبة، فلا هم لهم سوى التغطية الإعلامية لمآسي الانقلاب الذى مازال يترنح؛ وقضيتهم الأساسية – إن كانت لهم قضية وجودية يحيون عليها الآن – هى عودة مرسي إلى الرئاسة مع الوقوع الأحمق المتهاوى فى فخ الطائفية عند تناولهم لمايحدث من أزمات فى شتى البقاع العربية، بالتالى لاتملك إلا أن تعذرهم فى مصابهم الجلل وجزاهم الله خير الجزاء لو أصدروا بيان إدانة للممارسات الصهيونية وتحميس للمقاومة الفلسطينية الحرة !
أما صاحب مبدأ " مسافة السكة " والذى أطلق شعار جهوزية الجيش للدفاع عن الأمة العربية وأمن وسلامة الدول مندرجة تحت لواء العروبة؛ فقضيته وبوصلته لخصها واختزلها فيما يسمى بأمن " الخليج " ! نعم فالعروبة الآن لم تعد تعنى اتجاها ناصريا داعما لثورات التحرر العربى ضد عروش الملكية وتحرير فلسطين؛ بل صار أميرها وقائدها سماحة الملك عبد الله خادم الحرمين الشريفين المنزعج كثيرا من التهديدات الخارجية لأمن الخليج من القوميات غير العربية كالأتراك والفرس، أما بخصوص الصهاينة فسيتكفل الأمير تركى الفيصل بالدعوة الصادقة للسلام مع الصهيونى فى حل يتيح تواجد الدولتين لأنه وكما ينص مقاله فى صحيفة "هآرتس": "الآن هو الوقت المناسب لفرض السلام الذي يتمناه جميع الناس، أهل النيات الحسنة، أكثر من أي وقت مضى " متمنيا - كما يقول - القيام بزيارة المتحف الإسرائيلي "ياد فاشيم" وحائط المبكى،مثلما زار من قبل متحف المحرقة في واشنطن. وحتى يعم السلام مع الصهيونى على أراضينا العربية فينبغى أن نغض الطرف عن الضربة الصهيونية لفصائل الإرهاب الفلسطيني الرافضة لتلك المبادرة لعلها تكلل بالنجاح ونتخلص من ذلك الصداع المسمى بالمقاومة إلى الأبد.
نعم لم تعد فلسطين قضية العرب؛ فمنذ عشرات السنين وتحديدا بعد اتفاقية كامب ديفيد لم تعد قضية التحرير همنا الشاغل بفضل ثمار تلك الاتفاقية والتى لم ينتج عنها الرخاء ولا الأمن الذى حلم به السادات ورفع من أجله شعار مصر أولا ! ومن بعدها تخلى باقى حكام العرب عن تلك القضية حتى باتت تتبناها الشعوب العربية التى ماتنفك تضغط على حكامها كلما زاد حجم انتهاكات الصهاينة أو بالتزامن مع الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة.
نعم لم تعد وللأسف قضية كثير من شعوبنا العربية أيضا؛ والذين لم يعد يشغل بالهم إلا قتال بعضهم البعض تعصبا للطائفة والعرق إلى الحد الذى جعل تلك القضية هامشية فى محاضر أولوياتهم بل قد تضحك عندما يحكى لك أحد هؤلاء الطائفيين أن الطريق إلى القدس يجب أن يبدأ بإسقاط بشار والمالكى والزحف نحو إيران وربما روسيا إن كان التعصب للطائفة السنية؛ أو أن الطريق إلى القدس يجب أن يكون عبر تفكيك السعودية وإسقاط أردوغان والنيل من الاخوان وحماس إن كان شيعيا متعصبا، فإذا كان الطريق للقدس جغرافيا فى منتهى السهولة، فإن الاستقطاب الشعبى الحاصل الآن فى أمتنا قد صور للجهلاء أن هذا الدرب الوعر الصعب المليئ بالأشواك سيتمهد بأشلاء العرب أولا وأن دماء الفرس والأتراك مقدمة على تحرير فلسطين؛ بل هى بوابتنا للقدس ! لا أدرى أأضحك أم أبكى عندما تتأذى طبلة أذناى دوما بالتقاط تلك القاذورات الفكرية التى لاتقل جهلا وحماقة عن روث من نوع آخر ينادى بضبط النفس ويحمل المقاومة مسئولية موت الفلسطينيين الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ من أجل عيون حفنة من المقاومين الذين لايجب أن ينالوا حقهم فى تحرير الأرض والشرف والكرامة حفاظا على أولادهم ونسائهم ! لاتستغربون فهناك ما هو أفدح عندما تسمع من يقول إن مايحدث هو حرب بلاستيكية تمثيلية بين الصهاينة والمقاومين الفلسطينيين متفق عليها للتآمر على أمننا القومى المصرى وربما يدخل فيها التركى والقطرى لخلق بلبلة تسمح بإعادة مرسي إلى الحكم مرة أخرى !!
هكذا صرنا؛ حكاما وشعوبا لاتحمل أجندة أولوياتنا قضايا تتعلق بالتحرير والوحدة والعدالة، بل نشأت منا فصائل مسلحة عديدة لاتستخدم بنادقها إلى فى مواجهتنا نحن! وقضيتنا التى كانت المسار الوحيد لتوحيدنا؛ صرنا نختلف على ماهيتها وأولويتها والطريق المؤدى إليها أكثر وأكثر؛ فبدل التقاتل من أجلها، بتنا نقاتل بعضنا حولها ! وختاما لا يسعنى إلا أن أناشد المقاومين الفلسطينيين بألا يعتمدوا سوى على أنفسهم وطاقاتهم وإيمانهم بقضيتهم وليعلموا أن فى ذلك الزمن وتلك الفترة لاطريق للقدس إلا من داخل فلسطين، لاعبر سوريا ولا الأردن ولا إيران أو تركيا ولا القاهرة ..

دولة الخلافة الإسلامية !


منشور بالبديل الأسبوعى ، عدد 25 بتاريخ 9-7-2014



إذا كان غرض الشريعة الإسلامية؛ بل وشرائع الأنبياء بوجه عام هو إقامة العدل وبسط المعاملات التى تضمن ألا يظلم الناس فى معاملاتهم ومعايشهم كما يقول تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ الحديد/25 ، فلا تكمل الحكمة من تشريع تلك الأحكام إلا – وكما يقول مولانا محمد عبده – " إذا وجدت قوة لإقامة الحدود وتنفيذ حكم القاضى بالحق. وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لايجوز أن تكون فى فوضى فى عدد كثير فلابد أن تكون فى واحد وهو السلطان أو الخليفة " لذلك فقيادة الناس تحت لواء القانون الأصلح والأتم وتحت حاكمية القائد والحاكم الواحد هما ضرورتان عقليتان لاتنفك الأولى عن الثانية؛ بل العلاقة بين إجراء الأحكام العادلة ووجود الحاكم العادل هى علاقة الغاية " وهى إقامة العدل " والوسيلة التى لاغنى عنها لتحقيقها " وهى الحاكمية والقيادة " ..
أما عن شروط وماهية الخليفة فقد اتفق جمهور أهل السنة والجماعة على استبعاد شرطين من شروط هذا القائد تعتبران من مقومات الاتجاه الشيعى؛ وهما أن الإمامة بالنص النبوى وليست بالاختيار والمشورة؛ والثانى أن الخليفة ليس عنده العلم التام المطلق بالكتاب والسنة وجزئيات القوانين التى تحفظ العدالة وتقيم السنة فى المجتمع وهى المعروفة عند الشيعة بـ " عصمة الأئمة عن الخطأ فى سواء فى الاجتهاد أوعصمته من ارتكاب الذنوب الأخرى بوجه عام " ، ولكن اختلف أهل السنة فى تعيين باقى الشروط الأخرى منقسمين بلحاظ الواقع الحالى إلى ثلاثة اتجاهات رئيسية :-
الاتجاه الأول : وهو اتجاه التيار النصي أو أهل الحديث منهم والذين أوجبوا على المسلمين أن يكون لهم خليفة يجمع كلمتهم اعتمادا على النص الشرعى الصحيح  " من مات وليس فى عنقه بيعة مات ميتة جاهلية " وقد أفردوا شرط أن يكون الحاكم متغلبا بالقوة التى تعنى لديهم أن الله راض عن ولايته وحاكميته ومع رضا الله عن ولايته التى ربطوها بالآية القرآنية " قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ" آل عمران/26 فإن بيعة الناس له تكون واجبة وطاعتهم له مطلقة، وطالما تصدى حاكم مسلم أمر الخلافة وتمت بيعته لها دون أن ينازعه أحد فيها فقد تمت الحاكمية له ووجبت بيعته على عموم المسلمين ويحرم الخروج عليه طالما أقام الصلاة فى الناس ولم يمنع شعائر الله ! بالتالى فشروط الحاكمية عندهم ضمنيا تشمل كون الحاكم أو الخليفة متغلباَ بالقوة ولايمنع شعائر الله " كالصلاة والصيام والحج " من أن تقام.
أما الاتجاه الثانى فهو ماغلب فيه الاحتكام إلى الإرادة الشعبية فى اختيار النظام والحاكم إلى الحد الذى لاضرورة عندهم إلى تطبيق وحدة الحاكمية على الأقطار الإسلامية طالما ارتأت الشعوب مصلحة أو فائدة أخرى من التقسيمات الدولية الحالية؛ ويغلب على أصحاب ذلك الاتجاه الميل إلى الحديث عن مضمون وروح العدالة الإسلامية دون التركيز على ضرورة وحدة الأمة تحت قيادة تطبق الشريعة وتعميم تلك القوانين العادلة على كافة الأقطار المسلمة إلى جانب قرب أصحاب هذا الاتجاه من النظريات الحداثية الداعية إلى تعميق الليبرالية وإرساء حاكمية الصندوق الانتخابى.
والاتجاه الثالث : وهو اتجاه الحكماء وأصحاب المنهج العقلى من المذهب السنى؛ والذين وجبت الحاكمية عندهم بالعقل والمنطق مثلما أوردنا فى مقدمة ذلك المقال؛ وتطابق الحكم العقلى مع النصوص الشرعية الداعية إلى ضرورة الخلافة والبيعة، ولكن الشروط التى وضعوها للخليفة الشرعى لاتقوم على فكرة التغلب بالقوة والتى تستلزم من أصحابها القول بالجبرية التى لاتستقيم مع العقل والنصوص القرآنية واضحة الدلالة هنا، لذلك فقد عدوا شروطا لولى الأمر الواجبة طاعته فى الآية القرآنية " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم "النساء/59 أجملها مولانا محمد عبده فى قوله " شرط فيه أن يكون مجتهدا أى أن يكون من العلم باللغة العربية ومامعها- مما تقدم ذكره- بحيث يتيسر له أن يفهم من الكتاب والسنة ما يحتاج إليه من الأحكام، حتى يتمكن بنفسه من التمييز بين الحق والباطل والصحيح والفاسد، ويسهل عليه إقامة العدل الذى يطالبه به الدين والأمة معا. هو على هذا لايخصه الدين فى فهم الكتاب والعلم بالأحكام بمزية، ولايرتفع به إلى منزلة، بل هو وسائر طلاب الفهم سواء، إنما يتفاضلون بصفاء العقل، وكثرة الإصابة فى الحكم " ولأن القدرة على تمييز الحسن من القبيح فضيلة يتمتع بها المسلم العاقل الحكيم فقد استلزم ذلك أن يكون الحاكم عالما بالفلسفة والعلوم العقلية ولديه جانب من التفقه فى الأحكام الشرعية إلى جانب قبول الأمة بأعلميته وحاكميته، أما شروط طاعته وتقويمه فراجع، كما يقول الإمام محمد عبده وكما استقر الحكماء؛ إلى الأمة التى اختارته وقبلت بولايته كما يقول الشيخ عبده " ثم هو مطاع مادام على الحجة ونهج الكتاب والسنة والمسلمون له بالمرصاد، فإذا انحرف عن النهج أقاموه عليه وإذا اعوج قوموه بالنصيحة والأعذار إليه (لاطاعة لمخلوق فى معصية الخالق) فإذا فارق الكتاب والسنة فى عمله وجب عليهم أن يستبدلوا به غيره مالم يكن فى استبداله مفسدة تفوق المصلحة فيه. فالأمة أو نائب الأمة هو الذى ينصبه والأمة هى صاحبة الحق فى السيطرة عليه وهى التى تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها، فهو حاكم مدنى من جميع الوجوه." وهذا الاتجاه الجامع بين العقل والشرع يفرق بين ضرورة القيادة والإمامة للأمة الإسلامية ولكن دون إطلاقها لتشمل إمامة الظالمين وحاكمية الفسقة والجهلاء ؛ بل يعطى للإرادة الشعبية أيضا حقا أصيلا سواء فى مقبولية الحاكم أو إنهاء العقد الاجتماعى من الأساس كما أوضحنا فى مقال سابق بعنوان " الديمقراطى العادل "  

الديمقراطى العادل


منشور بالبديل الورقى ، العدد رقم 32 بتاريخ 25-6-2014

كيف تنشئ نظاما عادلا يجمع بين حرية الإرادة الشعبية فى اتخاذ القرارات وبين عقلانية القرارات وأصالتها بحيث تصدر عن الحكيم العادل؟
كانت رؤية الإمام محمد عبده أن الصيرورة إلى ذلك الحكم التوافقى لابد وأن تمر أولا عبر خمس عشرة عاما من حكم " المستبد العادل " الذى يهييء الأمة بقراراته " الأحادية العادلة " لأن تفهم معنى العدالة وتتربى على حرية الإرادة " المسئولة " أولا ثم بعد ذلك يبدأ ذلك الحاكم فى إعطائهم الحريات بالتدريج، تجنبا للفوضى والعشوائية واستخدام الناس الحرية فى غير موضعها، بحيث يتحول ذلك الحاكم من " مستبد عادل " إلى " ديمقراطى عادل ".وحتى يتم تضمين مشاركة الناس فى تلك المنظومة الحاكمة فهناك ثلاثة مجالات ينبغي أن تدخل حرية الإرادة المجتمعية بشكل أساسي فيها:-
المجال الأول : أن يختار الناس هذا النظام نفسه وأن يقبلوا هذا " العقد الاجتماعى "، بالتالى فالسيادة هنا للعقد (أو القانون فى نظر أرسطو قديما) لا للعقل كما قال أفلاطون فى بداية حياته عندما حاول أن يبحث عن ملك " متغلب بالفعل " ليقنعه بالحكمة والفلسفة ! متجاوزا إرادة الناس فى اختياره وبقائه، بالتالى فلنا أن نقف منتقدين أيضا فكرة محمد عبده الابتدائية عن " المستبد العادل " إن كان يقصد بها أن يحكم الناس عنوة بالانقلابات وبالتغلب دونما إرادة منهم .. وفى نظرى لا أظن أن ذلك هو مقصد مولانا الإمام عبده خاصة مع اهتمامه الشديد بحرية الإرادة والديمقراطية خاصة فى كتاباته السياسية الأولى، بالتالى فاختيار الناس لحكم الفلاسفة أو العدول والحكماء شرط ضرورى أغفله عديد من الحكماء أنفسهم فضلا عن جملة المنتسبين للتيار الإسلامى النصي أو النقلى الذين لم يضعوا أى اعتبار بالمرة لحرية إرادة المجتمع عندما أجازوا إمامة الحاكم المتغلب بالقوة والمسيطر على الناس بالإكراه!
المجال الثانى : المشاركة الشعبية فى القرار؛ فقرارات الحاكم العادل هنا عقلية المنشأ تخضع للبرهان العقلى فيما يخص " الثوابت " النظرية والعملية كالثابت من القيم الأخلاقية والمنطلقات المطلقة غير المتقيدة بزمان ومكان مثل معنى الحرية والحقوق والإنسانية والعدالة والتسامح والتضحية والفضيلة وإلى هنا وقف الفلاسفة فى مرحلة ماقبل الإسلام؛ أما الحكماء المسلمون ابتداءً بالفارابى وابن رشد وانتهاءً بمولانا محمد عبده فقد أضافوا إلى المطلقات والثوابت العقلية ثوابتا أخرى شرعية إسلامية " لاتتعارض مع الثابت من الاحكام العقلية؛ بل تزيدها عمقا وتفصيلا" وتعبر عن أحكام شرعية ثابتة لاتتغير هى الأخرى بتغير المجتمعات والظروف؛ كتحريم المعاملات الربوية والاحتكارية مثلاً،وهى الأحكام التى أيضا اتفق جمهور الفقهاء على كونها لاتتعلق بزمن معين أو ظروف بعينها. بذلك يكون منشأ قرار الحكماء " عقلى وشرعى " متعلق بالثوابت ووضع الخطوط الحمراء.
ورغم أن الإرادة الشعبية قد فوضت الحكماء - بحكم خبراتهم وأعلميتهم- بأن يأمّـنوا للناس المنطلقات المعيارية العقلية والشرعية التى من الواجب أن يسيروا على هداها؛ إلا أن ثمة مجال آخر لتضمين المشاركة الشعبية يتمثل فى الاستعانة بخبرات المتخصصين منهم فى استصدار القرارات خاصة فى مناطق الفراغ العقلى والشرعى؛ كتحديد إطار وخطة لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والصناعية والزراعية وكذلك فى مناطق كيفية تنفيذ تلك الإجراءات كبناء المؤسسات والهيكلية الإدارية وغيرها،  ويرجع فى ذلك إلى المتخصصين " التنفيذيين " الواجب انتخابهم من الشعب وإلى المراقبين للأداء وجودته " البرلمانيين " و " المحليين " الذين ينتخبون من الشعب أيضا، بالتالى بات الشعب هنا يحكم نفسه بنفسه ويراقب أداءه فيتقدم أكثر بطريقة التجربة والخطأ ولكن اعتمادا على معايير وخطوط يقدمها مجموعة الفلاسفة والحكماء توفر له الأمان القيمى والأخلاقى المطلوب ..
لكن السؤال هنا : ماذا إذا رفض الناس هذا النظام مرة أخرى؟ فلنذهب وقتها إلى المجال الثالث للمشاركة الشعبية؛ وهو أن للعقد الاجتماعى الذى أمضاه المجتمع مع حكمائه وفلاسفته الحق فى أن ينهيه أحد المتعاقدين من طرف واحد؛ بمعنى أن من حق الشعوب أن تقدم إجراءات إسقاط النظام وتمزيق العقد بأكثر من صورة ؛ تبدأ بجمع التوقيعات السلمية أومقاطعة الانتخابات أو العصيان المدنى السلمى وتنتهى بالثورات إذا لم يستجب النظام لرغبة أفراده فى إسقاطه؛ وتلك النقطة بات الاستقرارعليها بديهيا فى عرف المجتمع الدولى ولاتتناقض مع العقول التى لاتفرض على الإنسان والمجتمع شيئا دون اختياره وإرادته؛ كذلك روح الأحكام الشرعية التى لاتقبل العقود بالإكراه؛ بل لاإكراه فى الدين والاعتقاد أيضا، فالخائض فى السيرة النبوية وسيرة من سبق من الأنبياء لن يجد نبيا تسلط حكمه على الناس بالقوة؛ فالنبى محمد ص أخرجه أهله من وطنه بإرادة أكثريتهم وقتها؛ وطرد من الطائف أيضا بإرادة الأكثرية ولم يدخل مكة إلا برضا الأكثرية من أهلها ولم يقم دولته الإسلامية إلا على مجتمع جله من المسلمين القابلين بنبوته وحاكمية دولته أيضا..
من هنا تبرز أسئلة تفصيلية فى منتهى الأهمية: من هم الحكماء ومامدى معرفتهم وسلطاتهم؟ وإذا كانت الغاية إيجاد نظام يعتنى بإرادة الناس مع غائية أخلاقية عاقلة تحكم قراراتهم وتصرفاتهم وسياساتهم لإدارة المجتمع والدولة؛ ألا يكفى وضع مواد فوق دستورية بينة وواضحة يلتزم بها جميعهم لتكون بديلا عنهم؟؟ " للحديث بقية ".

الديمقراطى العادل



كيف تنشئ نظاما عادلا يجمع بين حرية الإرادة الشعبية فى اتخاذ القرارات وبين عقلانية القرارات وأصالتها بحيث تصدر عن الحكيم العادل؟
كانت رؤية الإمام محمد عبده أن الصيرورة إلى ذلك الحكم التوافقى لابد وأن تمر أولا عبر خمس عشرة عاما من حكم " المستبد العادل " الذى يهييء الأمة بقراراته " الأحادية العادلة " لأن تفهم معنى العدالة وتتربى على حرية الإرادة " المسئولة " أولا ثم بعد ذلك يبدأ ذلك الحاكم فى إعطائهم الحريات بالتدريج، تجنبا للفوضى والعشوائية واستخدام الناس الحرية فى غير موضعها، بحيث يتحول ذلك الحاكم من " مستبد عادل " إلى " ديمقراطى عادل ".
والحقيقة أن ثمة رأى " ليبرالى المنشأ " يوصي بأن الأصالة هنا لحكم الأكثرية وإرادة الشعوب وأن اختيار الناس للحكومات العادلة سوف يأتى إن آجلا أم عاجلا بعد أن يجرب الناس اختيار السيء فالسيء حتى يصل انتباههم إلى اختيار الأصوب، معتبرين أيضا أن اختيار الناس سيتحسن " حتما وبفعل القانون الطبيعى للاختيار ". لكن ولأننا هنا لانتعرض إلى نقد تلك الفكرة بقدر مانعرض الفكرة المناقضة لها والتى يتبناها الحكماء الإلهيون وعلى رأسهم مولانا محمد عبده بأن المعيار والأصالة هنا ليست للحرية؛ بل للعدالة التى على رأسها " الحاكم العادل " وأن حرية إرادة الناس هى وسيلة مشاركة فى طول تحقيق العدالة.. بمعنى أوضح " الحرية هنا من أجل العدالة وليست العدالة من أجل الحرية ! " .. وحتى يتم تضمين مشاركة الناس فى تلك المنومة الحاكمة فهناك ثلاثة مجالات ينبغي أن تدخل حرية الإرادة المجتمعية بشكل أساسي فيها:-
المجال الأول : أن يختار الناس هذا النظام نفسه وأن يقبلوا هذا " العقد الاجتماعى "، بالتالى فالسيادة هنا للعقد (أو القانون فى نظر أرسطو قديما) لا للعقل كما قال أفلاطون فى بداية حياته عندما حاول أن يبحث عن ملك " متغلب بالفعل " ليقنعه بالحكمة والفلسفة ! متجاوزا إرادة الناس فى اختياره وبقائه، بالتالى فلنا أن نقف منتقدين أيضا فكرة محمد عبده الابتدائية عن " المستبد العادل " إن كان يقصد بها أن يحكم الناس عنوة بالانقلابات وبالتغلب دونما إرادة منهم .. وفى نظرى لا أظن أن ذلك هو مقصد مولانا الإمام عبده خاصة مع اهتمامه الشديد بحرية الإرادة والديمقراطية خاصة فى كتاباته السياسية الأولى،  إلى أن جاء رفاعة الطهطاوى وأيد بشدة احترام إرادة الناس فى اختيار النظام الذى يرونه.. بالتالى فاختيار الناس لحكم الفلاسفة أو العدول والحكماء شرط ضرورى أغفله عديد من الحكماء أنفسهم فضلا عن جملة المنتسبين للتيار الإسلامى النصي أو النقلى الذين لم يضعوا أى اعتبار بالمرة لحرية إرادة المجتمع عندما أجازوا إمامة الحاكم المتغلب بالقوة والمسيطر على الناس بالإكراه!
المجال الثانى : المشاركة الشعبية فى القرار وهنا ينبغى الفصل هنا بين درجات عديدة ومفاهيم مختلطة؛ فالفئة ليبرالية المنشأ تجعل الاختيار المطلق للشعب وممثليه، والحاكم مجرد منفذ، وفئة أخرى تجعل القرارات جميعها فى يد الحاكم وعلى الشعب التنفيذ، وفئة ثالثة تتبنى طرحا توافقيا قائما على أصالة العدالة ومشاركة الناس بناءا على فصل دقيق لسلطات كل جهة؛ قرارات الحاكم العادل هنا عقلية المنشأ تخضع للبرهان العقلى فيما يخص " الثوابت " النظرية والعملية كالثابت من القيم الأخلاقية والمنطلقات المطلقة غير المتقيدة بزمان ومكان مثل معنى الحرية والحقوق والإنسانية والعدالة والتسامح والتضحية والفضيلة وإلى هنا وقف الفلاسفة فى مرحلة ماقبل الإسلام؛ أما الحكماء المسلمون ابتداءا بالفارابى وابن رشد وانتهاءا بمولانا محمد عبده فقد أضافوا إلى المطلقات والثوابت العقلية؛ ثوابتا أخرى شرعية إسلامية " لاتتعارض مع الثابت من الاحكام العقلية؛ بل تزيدها عمقا وتفصيلا" وتعبر عن أحكام شرعية ثابتة لاتتغير هى الأخرى بتغير المجتمعات والظروف؛ كتحريم المعاملات الربوية والاحتكارية وتكريس أخلاق العفة سواء فى الشكل واللبس والمظهر" كتحديد اللباس الساتر لعورات الرجل والأنثى " أو فى الجوهر" كغض البصر وخفض الصوت " وأيضا تحديد أطر المعاملات والأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وعدته وهكذا .. وهى الأحكام التى أيضا اتفق جمهور الفقهاء على كونها لاتتعلق بزمن معين أو ظروف بعينها. بذلك يكون منشأ قرار الحكماء " عقلى وشرعى " متعلق بالثوابت ووضع الخطوط   الحمراء.
ورغم أن الإرادة الشعبية قد فوضت الحكماء - بحكم خبراتهم وأعلميتهم- بأن يأمّـنوا للناس المنطلقات المعيارية العقلية والشرعية التى من الواجب أن يسيروا على هداها؛ إلا أن ثمة مجال آخر لتضمين المشاركة الشعبية يتمثل فى الاستعانة بخبرات المتخصصين منهم فى استصدار القرارات خاصة فى مناطق الفراغ العقلى والشرعى " كتحديد إطار وخطة اقتصادية معينة أو منظومة من العلاقات الدولية محددة الأولويات أو خطط زمنية كمية وكيفية لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والصناعية والزراعية وو" كذلك فى مناطق كيفية تنفيذ تلك الإجراءات كبناء المؤسسات والهيكلية الإدارية ووو " ويرجع فى ذلك إلى المتخصصين " التنفيذيين " الواجب انتخابهم من الشعب وإلى المراقبين للأداء وجودته " البرلمانيين " و " المحليين " الذين ينتخبون من الشعب أيضا، بالتالى بات الشعب هنا يحكم نفسه بنفسه ويراقب أداءه فيتقدم أكثر بطريقة التجربة والخطأ ولكن اعتمادا على معايير وخطوط يقدمها مجموعة الفلاسفة والحكماء توفر له الأمان القيمى والأخلاقى المطلوب ..
لكن السؤال هنا : ماذا إذا رفض الناس هذا النظام مرة أخرى؟ فلنذهب وقتها إلى المجال الثالث للمشاركة الشعبية؛ وهو أن للعقد الاجتماعى الذى أمضاه المجتمع مع حكمائه وفلاسفته الحق فى أن ينهيه أحد المتعاقدين من طرف واحد؛ بمعنى أن من حق الشعوب أن تقدم إجراءات إسقاط النظام وتمزيق العقد بأكثر من صورة ؛ تبدأ بجمع التوقيعات السلمية أومقاطعة الانتخابات أو العصيان المدنى السلمى وتنتهى بالثورات إذا لم يستجب النظام لرغبة أفراده فى إسقاطه؛ وتلك النقطة بات الاستقرارعليها بديهيا فى عرف المجتمع الدولى ولاتتناقض مع العقول التى لاتفرض على الإنسان والمجتمع شيئا دون اختياره وإرادته؛ كذلك روح الأحكام الشرعية التى لاتقبل العقود بالإكراه؛ بل لاإكراه فى الدين والاعتقاد أيضا، فالخائض فى السيرة النبوية وسيرة من سبق من الأنبياء لن يجد نبيا تسلط حكمه على الناس بالقوة؛ فالنبى محمد ص أخرجه أهله من وطنه بإرادة أكثريتهم وقتها؛ وطرد من الطائف أيضا بإرادة الأكثرية ولم يدخل مكة إلا برضا الأكثرية من أهلها ولم يقم دولته الإسلامية إلا على مجتمع جله من المسلمين القابلين بنبوته وحاكمية دولته أيضا..
من هنا تبرز أسئلة تفصيلية فى منتهى الأهمية: من هم الحكماء ومامدى معرفتهم وسلطاتهم؟ وإذا كانت الغاية إيجاد نظام يعتنى بإرادة الناس مع غائية أخلاقية عاقلة تحكم قراراتهم وتصرفاتهم وسياساتهم لإدارة المجتمع والدولة؛ ألا يكفى وضع مواد فوق دستورية بينة وواضحة يلتزم بها جميعهم لتكون بديلا عنهم؟؟ " للحديث بقية ".