الجمعة، 18 يوليو 2014

الديمقراطى العادل



كيف تنشئ نظاما عادلا يجمع بين حرية الإرادة الشعبية فى اتخاذ القرارات وبين عقلانية القرارات وأصالتها بحيث تصدر عن الحكيم العادل؟
كانت رؤية الإمام محمد عبده أن الصيرورة إلى ذلك الحكم التوافقى لابد وأن تمر أولا عبر خمس عشرة عاما من حكم " المستبد العادل " الذى يهييء الأمة بقراراته " الأحادية العادلة " لأن تفهم معنى العدالة وتتربى على حرية الإرادة " المسئولة " أولا ثم بعد ذلك يبدأ ذلك الحاكم فى إعطائهم الحريات بالتدريج، تجنبا للفوضى والعشوائية واستخدام الناس الحرية فى غير موضعها، بحيث يتحول ذلك الحاكم من " مستبد عادل " إلى " ديمقراطى عادل ".
والحقيقة أن ثمة رأى " ليبرالى المنشأ " يوصي بأن الأصالة هنا لحكم الأكثرية وإرادة الشعوب وأن اختيار الناس للحكومات العادلة سوف يأتى إن آجلا أم عاجلا بعد أن يجرب الناس اختيار السيء فالسيء حتى يصل انتباههم إلى اختيار الأصوب، معتبرين أيضا أن اختيار الناس سيتحسن " حتما وبفعل القانون الطبيعى للاختيار ". لكن ولأننا هنا لانتعرض إلى نقد تلك الفكرة بقدر مانعرض الفكرة المناقضة لها والتى يتبناها الحكماء الإلهيون وعلى رأسهم مولانا محمد عبده بأن المعيار والأصالة هنا ليست للحرية؛ بل للعدالة التى على رأسها " الحاكم العادل " وأن حرية إرادة الناس هى وسيلة مشاركة فى طول تحقيق العدالة.. بمعنى أوضح " الحرية هنا من أجل العدالة وليست العدالة من أجل الحرية ! " .. وحتى يتم تضمين مشاركة الناس فى تلك المنومة الحاكمة فهناك ثلاثة مجالات ينبغي أن تدخل حرية الإرادة المجتمعية بشكل أساسي فيها:-
المجال الأول : أن يختار الناس هذا النظام نفسه وأن يقبلوا هذا " العقد الاجتماعى "، بالتالى فالسيادة هنا للعقد (أو القانون فى نظر أرسطو قديما) لا للعقل كما قال أفلاطون فى بداية حياته عندما حاول أن يبحث عن ملك " متغلب بالفعل " ليقنعه بالحكمة والفلسفة ! متجاوزا إرادة الناس فى اختياره وبقائه، بالتالى فلنا أن نقف منتقدين أيضا فكرة محمد عبده الابتدائية عن " المستبد العادل " إن كان يقصد بها أن يحكم الناس عنوة بالانقلابات وبالتغلب دونما إرادة منهم .. وفى نظرى لا أظن أن ذلك هو مقصد مولانا الإمام عبده خاصة مع اهتمامه الشديد بحرية الإرادة والديمقراطية خاصة فى كتاباته السياسية الأولى،  إلى أن جاء رفاعة الطهطاوى وأيد بشدة احترام إرادة الناس فى اختيار النظام الذى يرونه.. بالتالى فاختيار الناس لحكم الفلاسفة أو العدول والحكماء شرط ضرورى أغفله عديد من الحكماء أنفسهم فضلا عن جملة المنتسبين للتيار الإسلامى النصي أو النقلى الذين لم يضعوا أى اعتبار بالمرة لحرية إرادة المجتمع عندما أجازوا إمامة الحاكم المتغلب بالقوة والمسيطر على الناس بالإكراه!
المجال الثانى : المشاركة الشعبية فى القرار وهنا ينبغى الفصل هنا بين درجات عديدة ومفاهيم مختلطة؛ فالفئة ليبرالية المنشأ تجعل الاختيار المطلق للشعب وممثليه، والحاكم مجرد منفذ، وفئة أخرى تجعل القرارات جميعها فى يد الحاكم وعلى الشعب التنفيذ، وفئة ثالثة تتبنى طرحا توافقيا قائما على أصالة العدالة ومشاركة الناس بناءا على فصل دقيق لسلطات كل جهة؛ قرارات الحاكم العادل هنا عقلية المنشأ تخضع للبرهان العقلى فيما يخص " الثوابت " النظرية والعملية كالثابت من القيم الأخلاقية والمنطلقات المطلقة غير المتقيدة بزمان ومكان مثل معنى الحرية والحقوق والإنسانية والعدالة والتسامح والتضحية والفضيلة وإلى هنا وقف الفلاسفة فى مرحلة ماقبل الإسلام؛ أما الحكماء المسلمون ابتداءا بالفارابى وابن رشد وانتهاءا بمولانا محمد عبده فقد أضافوا إلى المطلقات والثوابت العقلية؛ ثوابتا أخرى شرعية إسلامية " لاتتعارض مع الثابت من الاحكام العقلية؛ بل تزيدها عمقا وتفصيلا" وتعبر عن أحكام شرعية ثابتة لاتتغير هى الأخرى بتغير المجتمعات والظروف؛ كتحريم المعاملات الربوية والاحتكارية وتكريس أخلاق العفة سواء فى الشكل واللبس والمظهر" كتحديد اللباس الساتر لعورات الرجل والأنثى " أو فى الجوهر" كغض البصر وخفض الصوت " وأيضا تحديد أطر المعاملات والأحوال الشخصية كالزواج والطلاق وعدته وهكذا .. وهى الأحكام التى أيضا اتفق جمهور الفقهاء على كونها لاتتعلق بزمن معين أو ظروف بعينها. بذلك يكون منشأ قرار الحكماء " عقلى وشرعى " متعلق بالثوابت ووضع الخطوط   الحمراء.
ورغم أن الإرادة الشعبية قد فوضت الحكماء - بحكم خبراتهم وأعلميتهم- بأن يأمّـنوا للناس المنطلقات المعيارية العقلية والشرعية التى من الواجب أن يسيروا على هداها؛ إلا أن ثمة مجال آخر لتضمين المشاركة الشعبية يتمثل فى الاستعانة بخبرات المتخصصين منهم فى استصدار القرارات خاصة فى مناطق الفراغ العقلى والشرعى " كتحديد إطار وخطة اقتصادية معينة أو منظومة من العلاقات الدولية محددة الأولويات أو خطط زمنية كمية وكيفية لتقديم الخدمات الصحية والتعليمية والصناعية والزراعية وو" كذلك فى مناطق كيفية تنفيذ تلك الإجراءات كبناء المؤسسات والهيكلية الإدارية ووو " ويرجع فى ذلك إلى المتخصصين " التنفيذيين " الواجب انتخابهم من الشعب وإلى المراقبين للأداء وجودته " البرلمانيين " و " المحليين " الذين ينتخبون من الشعب أيضا، بالتالى بات الشعب هنا يحكم نفسه بنفسه ويراقب أداءه فيتقدم أكثر بطريقة التجربة والخطأ ولكن اعتمادا على معايير وخطوط يقدمها مجموعة الفلاسفة والحكماء توفر له الأمان القيمى والأخلاقى المطلوب ..
لكن السؤال هنا : ماذا إذا رفض الناس هذا النظام مرة أخرى؟ فلنذهب وقتها إلى المجال الثالث للمشاركة الشعبية؛ وهو أن للعقد الاجتماعى الذى أمضاه المجتمع مع حكمائه وفلاسفته الحق فى أن ينهيه أحد المتعاقدين من طرف واحد؛ بمعنى أن من حق الشعوب أن تقدم إجراءات إسقاط النظام وتمزيق العقد بأكثر من صورة ؛ تبدأ بجمع التوقيعات السلمية أومقاطعة الانتخابات أو العصيان المدنى السلمى وتنتهى بالثورات إذا لم يستجب النظام لرغبة أفراده فى إسقاطه؛ وتلك النقطة بات الاستقرارعليها بديهيا فى عرف المجتمع الدولى ولاتتناقض مع العقول التى لاتفرض على الإنسان والمجتمع شيئا دون اختياره وإرادته؛ كذلك روح الأحكام الشرعية التى لاتقبل العقود بالإكراه؛ بل لاإكراه فى الدين والاعتقاد أيضا، فالخائض فى السيرة النبوية وسيرة من سبق من الأنبياء لن يجد نبيا تسلط حكمه على الناس بالقوة؛ فالنبى محمد ص أخرجه أهله من وطنه بإرادة أكثريتهم وقتها؛ وطرد من الطائف أيضا بإرادة الأكثرية ولم يدخل مكة إلا برضا الأكثرية من أهلها ولم يقم دولته الإسلامية إلا على مجتمع جله من المسلمين القابلين بنبوته وحاكمية دولته أيضا..
من هنا تبرز أسئلة تفصيلية فى منتهى الأهمية: من هم الحكماء ومامدى معرفتهم وسلطاتهم؟ وإذا كانت الغاية إيجاد نظام يعتنى بإرادة الناس مع غائية أخلاقية عاقلة تحكم قراراتهم وتصرفاتهم وسياساتهم لإدارة المجتمع والدولة؛ ألا يكفى وضع مواد فوق دستورية بينة وواضحة يلتزم بها جميعهم لتكون بديلا عنهم؟؟ " للحديث بقية ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق