الأربعاء، 25 يونيو 2014

رحل العقاد وبقيت الصهيونية !

منشور بالبديل الإلكترونى
http://elbadil.com/2014/06/25/%D8%A3%D8%B4%D8%B1%D9%81-%D9%85%D9%88%D8%B3%D9%89-%D8%B1%D8%AD%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D9%82%D8%A7%D8%AF-%D9%88%D8%A8%D9%82%D9%8A%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D9%87%D9%8A%D9%88%D9%86%D9%8A%D8%A9/
"رأس مال أخر مهدد بالضياع، وكلام لا يثبت منه إلا حقيقة واحدة، وهي أن إسرائيل محرومة من عوامل البقاء بغير المعونة الأمريكية وأن الأمم العربية تعرف ذلك كما يعرفه الصهيونيون." كلمات ختم بها الكاتب الكبير عباس العقاد كتابه القيم والمهمل فى الوقت ذاته " الصهيونية العالمية " فى الوقت الذى كان العقاد يراهن على وعى العرب بتلك الحقيقة الراسخة؛ ألا وهى أن الصهيونى كيان معدوم الفرص فى أن يبقى طويلا، وأنه كالجسد الهامد الذى مازال يحيا على نقل الدم وتغيير أجهزة التنفس والمسكنات التى كانت وقتها تأتيهم من " حفنة " قليلة من الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، فكان تنبؤه بحتمية زوال الصهيونى سريعا قائما على أمرين قال عنهما " إن إسرائيل لن تعيش إلا بوسيلة من وسيلتين، فإما أن تظل عالة على التبرعات والمعونة الخارجية بغير انقطاع، ولا تستطيع دولة أن تعتمد على هذه الموارد في تدبير وسائل البقاء الطويل.والوسيلة الأخرى أن تعيش بمواردها في صناعتها ومرافقها التجارية والاقتصادية، وليس في استطاعتها أن تعيش بمواردها الصناعية وثروتها الاقتصادية حين يتقدم العرب في الصناعة، وحين تصبح لهم تجارة تناسب هذا التقدم في إخراج هذه المصنوعات." ولكن الزوال لم يلتهم حياة العقاد فحسب؛ بل ومضغ معه أحلاما وآمالا بتقدم العرب فى الصناعة والنمو والرقى لتحقيق المزيد من " عزل إسرائيل " بحيث يكون تلاشيها مسألة وقت لا أكثر مثلما توقع العقاد.
فتعجيز البلاد العربية إلى الأبد فى رأى أديبنا الكبير شرط لازم لبقاء إسرائيل معتمدة على مواردها، غير معتمدة إلى غير نهاية على صدقات المتبرعين ومعونة الحماة والنصراء من الدول الأجنبية، وينبغي أن تظل البلاد العربية عاجزة عن التقدم الصناعي، فريسة للمستغلين من الصهيونيين، لتعيش إسرائيل بثروتها وموارد صناعتها.
يا إلهى! لا أدرى ماذا أقول للعقاد إذا ما حل ضيفا مرة أخرى على دنيانا ورأى حالنا الهزيل بأم عينيه الآن!؟ هل أخبره بأن العرب لم تعجزهم إسرائيل عبر حصار اقتصادى أو تضييق سياسي دولى أو احتلال عسكرى مستدام؛ بل وصل الحال بهم إلى التطبيع مع هذا الكيان وتحقيق التبادل التجارى معهم بشكل يضعفنا ويقوى الصهاينة بمعزل عن ضخ الدم الأمريكى ؟! أم أتركه يتابع نشراتنا الإخبارية التى تحكى عن زيارات وبروتوكولات بين قادة العرب ومسئولى إسرائيل فى حين يقاطع العرب بعضهم بعضا ويستعينون بالأمريكان على اخوانهم ويكسرون عظام بعضهم بالصراعات الطائفية والدينية؟ أتراه سيتحمل ذلك المشهد وهو الذى قال بأن  "ثروة إسرائيل مثقلة بالتفاوت الكبير بين صادراتها ووارداتها، فوارداتها خمسة أضعاف صادراتها، ومادامت المقاومة العربية محيطة بها من جميع جوانبها فهي مضطرة إلى جلب الخامات من بلاد بعيدة، وإرسال المصنوعات إلى أسواق بعيدة لا تستطيع المزاحمة بتكاليف صناعتها الغالية."!؟ نعم لقد كانت المقاومة العربية فى زمنه أمرا بديهيا لأمة مازال تحتفظ ببعض من كرامتها وشيء من وحدتها؛ فى الوقت الذى باتت المقاومة الآن مختزلة فى بضعة آلاف من المقاتلين الذين يعانون من حصار الدول العربية لهم والتضييق عليهم وكافة أشكال النيل من نواياهم وتوجهاتهم وطوائفهم إلى حد أن تم الزج بهم فى صراعات طائفية ونزاعات " عربية – عربية " أضعفت كثيرا من قوتهم التى كانوا يستمدوها من تأييد شعوبنا العربية – دون الحكام والأنظمة، فماعادت الدول تقاوم أو حتى تقاطع؛ لقد باتوا يقاومون أنفسهم ويستميتون فى تمزيق بنيانهم الاجتماعى وتماسكهم القائم على وحدة اللغة والعادات والتقاليد والظروف والبعد الحضارى الإسلامى..
لقد رحل العقاد ومازال الكيان الصهيونى قائما؛ لا لأن العقاد أخطأ فى نظريته أو قانونه القائل بأن ثمة علاقة عكسية بين قوتنا ووحدتنا ومقاطعتنا للصهاينة وبين مجرد بقائهم لسنين أخرى قادمة؛ بل لأن العقاد ذهب آخذا معه الوعى والإدراك وتاركا لنا تلالا من عنجهية الجهل المركب أصابتنا لدرجة أننا ونحن نقتل أنفسنا ونمزق أشلاء وحدتنا وتماسكنا؛ يصيح جرحانا قائلين: هو احنا إيه مشكلتنا مع الصهاينة؟ مانعيش مع بعض فى سلام وخلاص!

الأحد، 22 يونيو 2014

داعش؛ يوم لاينفع السكوت

منشور بالبديل الورقى عدد22 بتاريخ 18-6-2014



كان الكثير من الإسلاميين ينظرون إلى أسامة بن لادن باعتباره رجلا خدم الإسلام كثيرا رغم بعض أخطائه فى مجال الاجتهاد السياسي والإجراءات ! حقا فالرؤية واحدة والمنهج المعرفى لفهم الدين وماورد فى الكتاب يصل بينهما إلى المطابقة؛ ففهم الدين ومقاصد النصوص الواردة من القرآن والسنة ليس عبر أفهام واعية تتخذ العقل سبيلا للمعرفة؛ بل عبر تقليد أعمى لعلماء سالفين قد لانختلف على أخلاقهم بقدر مانختلف على ماحوته أذهانهم من فهم ..كان المفترض أن نقتدى بحسن سيرتهم من دون أن نطلق لهم العصمة من الخطأ فى فهم الدين ككل.
كان العدو الأول للمسلمين فى بداية الدعوة هم طائفة المشركين ثم أباطرة الفرس والروم فيما بعد؛ وهم المستعمرون الذين فرضوا فلسفة حق القوة كأمر واقع جاء الإسلام ليلغيه ويحل محله فلسفة الحق فى ذاته وفى النهاية من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر،ولكن عندما قامت تحالفات تحمل اسم الإسلام – زورا- تحت راية خلافة أموية تارة وعباسية تارة أخرى؛ اشتدت الصراعات المذهبية والفكرية إلى درجة اعتبر فيها بعض علماء السلف أن الروافض هم أشد خطرا من اليهود والنصارى ! هكذا بلا نص فى كتاب أو سنة أو استناد إلى رأى صحابى مثلما جرت عادتهم فى اتخاذ الأحكام الفقهية والعقائدية وأيضا المواقف السياسية؛ وذلك فى تكريس لرؤية مختلفة توجه النظر إلى عدو آخر ..
ومع مجييء محمد بن عبد الوهاب ومن قبله ابن تيمية؛ توسعت دائرة الإقصاء والتكفير لتنال جميع المتصوفة ممن يتمسحون بالقبور؛ فوضعوا – بجانب الشيعة- عدوا آخر من المسلمين هم المتصوفة؛ إضافة إلى المعتزلة والأشاعرة وغيرهم من باقى فرق المسلمين والذين تفاوتت نظرات هؤلاء العلماء لهم مابين التكفير أو التفسيق والبراء منهم ومن بدعهم وضلالتهم.
أقول ذلك معتبرا أن سلوكيات داعش ونظرتها للدين والمجتمع ولمخالفيها لم تأت من فراغ؛ بل من فتاوى وآراء لفقهاء ومحدثين مازالت كتبهم التكفيرية تحقق المبيعات الأعلى داخل أسواقنا! وفقهاء التكفير والأحادية ومحدثوهم مازال بعضهم يحمل لقب " شيخ الإسلام " و " مجدد الدين " .. ممن أفرزوا تلامذة نجباء بحجم ابن عبد الوهاب والظواهرى وأخيرا داعش وأفكارها؛ بل وبحجم من يختلفون مع الظواهرى فى مسلكه ويترحمون فى الوقت ذاته على " شهداء القاعدة " ويؤيدون داعش فيما تفعل ..
إن حجم الكارثة وهول المفاجأة لايكمن فى  داعش وحدها فقط؛ بل فى ثقافة وفكر من ينظرون إلى داعش وأمثالها بأنهم " مسلمون " ولكن " زودوها حبتين " وما أكثرهم فى مجتمعنا العربى والإسلامى، وقبل أن تعلوا ألسن العديد من الشيوخ والعلماء بالتبرؤ من أفعال داعش وممارساتها الوحشية؛ هل يجرؤ أحد من هؤلاء الشيوخ أن يتبرأ من منهجية داعش فى التفكير والتكفير ومصدرية استقائهم لممارساتهم نفسها؟ وهى نفس الأرضية والمنبع الذى يستقى هؤلاء الشيوخ أنفسهم فتاواهم وآراءهم .. نفس القلة القليلة من علماء سلف بعينهم " دون غيرهم " ونفس مصادر الكتب التى يستمد منها أتباع داعش فتاويهم التكفيرية؛ يستند إليها هؤلاء الشيوخ فى الفتاوى والآراء فى شتى قضايا الفرد والمجتمع !
حقا وقبل أن ترتفع الأصوات بضرورة التصدى لحركات مثل داعش؛ نحتاج إلى زلزلة فكرية وثورة ترتكز على الإنصاف وإعمال العقل والضميرنتصدى خلالها لتنقيح تلك الكتب السلفية " المقدسة " من هرائها الإقصائى وتناولها التكفيرى لباقى المذاهب والفرق الإسلامية؛ بل ونظرتها للدين والمجتمع وباقى الأديان بوجه عام .. نحتاج لوقفة جادة لكى نفهم حقيقة تاريخنا الإسلامى جيدا حتى نجيب على تلك الأسئلة التى للأسف لم يتوقف عندها الكثيرون:-
من الذى كتب تاريخنا الإسلامى بالشكل الذى يدعى فيه المؤرخون أن حكم بنى أمية كان عادلا والثورات التى قامت ضده كانت باغية وتشق عصا الطاعة للخليفة؟ من المستفيد من إبراز تلك النظرة السطحية الجاهلة المبررة والمؤيدة لقتل الفكر الفلسفى الإسلامى ووأد ثوراتنا التصحيحية  " كثورة الحسين وغيلان الدمشقى وزيد وانتفاضة الزنج  " ؟
من الذى اعتبر أن الأئمة الأربعة هم أعلم الفقهاء على وجه الأرض دون غيرهم من الأئمة كابن جرير والليث بن سعد؟ هل المعيار بالأعلمية أم بكثرة الأتباع أم بفرمانات السلاطين؟
ولماذا الخليفة المتوكل هو ناصر السنة وأحد الخلفاء الراشدين عند البعض؛ هل لإقصائه المتكلمين والعقلاء وأهل الاعتزال ؟ ولماذا كان المأمون شيطانا يمشي على الأرض؟ هل لكونه معتزليا أم هناك أسباب أخرى دون الحكم على تصرفات الناس بما يعتنقونه من مذهب أو اتجاه؟ ما طبيعة العلاقة السياسية بين الخلفاء والسلاطين وبين محدثين وشيوخ وفقهاء بعينهم استقروا على حرمة الخروج على الظالم وأوجبوا الاعتراف بإمامة الحاكم المتغلب بالقوة ؟! ومن المستفيد من اختزال معنى التوحيد فقط فى " تسوية القبور وهدم مظاهر التوسل بالأولياء " إلى حد اعتبار كل من يخالف ذلك مشركا خارجا عن الملة والدين ولايجوز الصلاة عليه أو دفنه فى قبور المسلمين.
هذه الأسئلة وغيرها من " ثقوب سوداء " ومناطق محرم الخوض فيها فى تاريخنا الإسلامى قد يترتب على إجاباتها المنصفة وضع النقاط على الحروف فى كثير من القضايا التى لاتتعلق بالوقوف على أرضية صلبة تمثل المنهجية الحقيقية للدين الإسلامى فحسب؛ بل وتكشف النقاب على مدى الزيف التاريخى والسياسي؛ بل والفقهى أيضا الذى قد نفاجئ أننا عشنا تحت رحابه لقرون عديدة من الزمان ظانين أن مانتلحف به هو الإسلام الذى جاء به القرآن على لسان نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام وأن هؤلاء العلماء هم أجل ما أنجبت أمتنا الإسلامية من علم وفهم ودراية ! فإن كنتم تريدون حقا الإجابة عن سؤال " لماذا ظهرت داعش ؟ وماعوامل انتشارها وقوتها الحالية؟ " أجيبوا من فضلكم على تلك الأسئلة حتى تتبينوا بعمق لماذا ظهرت داعش ولماذا ستظهر غيرها دوما ودوما طالما مازلنا نؤثر الصمت على ماضينا ونقاط ضعفنا التاريخية والمعيارية ونغطى عيوبنا بستار السكوت؛ يوم لا ينفع السكوت !

وجه مصر الحضارى

منشور بالبديل عدد 21 بتاريخ 11-6-2014



"1"
صرف الخديوى إسماعيل أكثر من مليون جنيه مصرى ليقيم احتفالا ضخما بمناسبة افتتاح قناة السويس وكانت حجته آنذاك " إظهار وجه مصر الحضارى" .. إنه وجه مصر المبتسم المحتفل دوما بالانتصارات والذى يخفى معاناة غالبية هذا الشعوب المنهوبة ثرواته والمقهورة حقوقه فى الصحة والتعليم والعيش الكريم ..
هذا وجه مصر" الزائف "  الذى لطالما حاول المستبدون على مر الأزمان كثيرا أن يظهروه لا لأنفسهم ولا للعالم فحسب؛ بل للشعب نفسه حتى نصل إلى درجة تجعلنا لانصدق أننا فعلا نعانى؛ بل نحن سعداء ! نعم فالجو حار جدا رغم برودته لدرجة تجعلنى أخلع معطفى الثقيل من شدة الحر " مثلما كان المشهد الكوميدى يحكى" ..
"2"
استغربت جدا من تعليق أحد " المحللين " الذى يصف أغانى ثورة يناير بالحزينة " مبديا استياءه من ذلك " دون أغانى تلك الأيام المتسمة بالفرحة والتراقص! ألا تدرى ياسيدى أن وجه مصر الحقيقى " الفقير المسكين المستضعف " وفى نفس الوقت " الأبى الكريم الشجاع المتسامح " قد ظهر فى ثورة يناير حتى وبعد انتصارها الجزئى بتنحية مبارك كانت الفرحة حزينة ليس فقط بسبب عدد الشهداء والمصابين، بل لأن الوقت القادم كان وقت البناء الذى ظن كل مصرى حينذاك أنه بات شريكا فيه ومتحملا لمسئولياته .. فالأمل غطى مشاعر الفرحة وحماس البناء  كان أقوى من لذة الانتصار.
والآن ماذا ترى ياسيدى " المحلل " وجه مصر الحضارى؟ احتفالات صاخبة وراقصة تمتزج بمظاهر يستهجنها كل إنسان " سليم النفس والفطرة " وتنتهى بحالات التحرش الجماعى؛ بل والاغتصاب الكامل أيضا كما شاهدنا؟ هل هذا وجه مصر الحضارى الذى يعبر عن ملايين الناس ؟ شعب فى منتهى السعادة لدرجة الرقص الجنونى المصاحب لنوبات التحرش المتكررة؟؟
" 3 "
وجه مصر الآن – وربما فيما بعد- لن يرسموه معبرا عن حجم معاناتنا ، بل بما مايملئون به  أوهامنا ومداركنا بالأغانى الوطنية التى تقشعر لها أبداننا والتى لن تحدثنا عن آمال قادمة .. فقط ترسم لنا صورة  خيالية عن " المجد " الذى نحياه الآن والذى بموجبه نعيش أسمى لحظات الإنسانية لأننا فقط نحيا فى رحابه ونستمد حياتنا من وجوده ! نعم فقد بات مجرد " وجودنا " أحياء فى هذا الوطن  نعمة كبيرة كاد أن يسلبنا منها أسلاف ذلك النظام فجاء الأبطال ليعيدوا لنا فقط " الحياة"، بالتالى فالتماس الكرامة أو الكفاف الذاتى أو الحرية منهم يجعلنا نبدو وكأننا " عشمانين فى كرم زائد " لا مطالبين لأبسط الحقوق وأدناها، لأن مجرد العيش فقط بات هبة عظيمة يستحق مانحوها أن نشكرهم علينا دون المطالبة بالجملة كاملة " العيش الكريم" فالشطر الثانى لم يعدنا أحد بتحقيقه فعليا ..
"4"
عشرات من الآلاف فى السجون ووجه مصر مازال الإعلاميون يصرون على أنه "فى كامل الامتنان" للرئيس عدلى منصور على نجاحه فى فترة رئاسته المؤقتة ! لم نستغرب ذلك عندما كان وجه إعلامنا يهلل فرحا بانتصارات كرة القدم بينما كان يموت مواطنونا من طوابير العيش وتصادم القطارات ..
محدش شاف " وجهنا الحقيقى " ياجدعان؟




الاثنين، 9 يونيو 2014

فلسفة الحروب الناعمة

بحث منشور بالبديل الإلكترونى

http://elbadil.com/2014/06/09/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%85%D8%A9/



بعيد نظرية دارون العلمية المثيرة للجدل حول النشوء والارتقاء، تفتحت مجالات واسعة لكثير من العلماء والمفكرين للخوض فى بحوث حول " ماهية الذكاء الإنسانى " وكيفية تطويره وتنميته – علميا ومختبريا- عبر معرفة آليته أولا ؛ ومن ثم التحكم فى زيادة معدلاته بما يضمن تحقيق السعادة الإنسانية المرتبطة عند الكثير منهم بزيادة أعمار الإنسان وتقليل الانفعلات المؤدية إلى الحروب والنزاعات وتزويد معدلات الاطمئنان والراحة النفسيين ..
وقد اتجه عديد من العلماء والمفكرين خاصة فى بدايات وأواسط القرن العشرين إلى تقديم لوحاتهم الإبداعية التى تعبر عن أحلامهم وآمالهم فى تقدم ورقى الإنسان؛ فعالم مثل جون تايلور يحدثنا عن أحلامه فى المستقبل بقوله " ستختلف التربية الجديدة عن القديمة فى عدة أمور، أولا ستستخدم أساليب جديدة لتحسين الذكاء عن طريق إثراء البيئة المبكرة الأولى، بالإضافة إلى تطعيم المخ لدى الأطفال الصغار وهندسة الوراثة .. كما يتضمن أيضا تحسين الذاكرة بوسائل كيميائية، وهو أمر نكاد نحققه ، ويمكن إتاحته على نطاق الكون كله إلى مستويات أعلى وأوسع"[1] .. إلى أن قال " وسينتشر استخدام مختلف العقاقير التى تزيد من الانتباه، وكذلك التعلم بتأثير النوام !." نعم لقد نطق بها !! فالتعليم عبر التنويم، الذى يخاطب اللاإدراك أو المنطقة اللاوعية من الذهن، يبدو حلما يوفر أسهل وأكثر الحلول إراحة للمتلقى وذلك عبر بث العلم داخله لا بطريقة الشرح والاستدلال بل بالكبسولات التى تحمل محتويات علمية جاهزة تلقى مباشرة إلى لاوعيه لترسم لوحة كبيرة من المعلومات بحيث يستيقظ المتلقى ليجدها كامنة بداخله ومغروزة فى وجدانه وكأنه مولود بها!
كانت فلسفة استثمار المنطقة اللاواعية من الذهن البشرى مبدؤها حلما مثاليا[2] يحقق السعادة وأقصى درجات المتعة للإنسان دون تكليفه عناء البحث والقراءة والتدقيق؛ تماما كالوجبات الجاهزة السريعة وثقافة الديلفرى التى تجنب الكثيرين عناء شراء الخامات والطبخ ! ولأن حلم استثمار التعليم عبر النوام أو التنويم بدأ غرضه طوباويا غارقا فى المادية فكان من الطبيعى أن تمتزج بنوع من الاشتراكية الخيالية التى بموجبها يحقن العلماء كل الأجناس البشرية بعقاقير زيادة الذكاء والكبسولات العلمية والأخلاقية اللازمة أيضا؛ على غرار فيلم " أرض النفاق " الذى وضع البطل الحالم فيه حبوبا للشجاعة والصراحة فى نهر النيل بأسوان حتى يشرب منه جميع المصريين !
ولأن أكثر منتهجى الثقافة المادية بطبيعتها وطبيعتهم يتسمون بالواقعية الشديدة؛ فكان من الطبيعى أن تحرز العديد من المساعى العلمية المبتنية على اختبارات سوسيولوجية وسيكولوجية وباراسيكولوجية تقدما كبيرا فى مجال مخاطبة اللاشعور وبث الرسائل والأفكار المراد إقناع الأفراد بتبنيها دونما أن تمر على عقل الإنسان وذهنه المنطقى الواعى؛ هذه المنطقة التى تكترث بالدليل وتهتم بالخطاب العقلى الإنسانى .. ولكن هذا التقدم المستمر تم استثماره للأسف لا فى تحقيق آمال لإسعاد البشر " على الطراز المادى " بل ابتدأ البحث الجاد فيه فى ألمانيا النازية وأجريت تجارب علمية على الإنسان نفسه لكى يتقبل المجتمعات فكرة النازية ويتم غسيل العقل المجتمعى الدولى من أجل خدمة القومية الألمانية وأفكارها آنذاك ! وكان من تلك الأبحاث على المساجين والأسرى لدى سجون الألمان؛ تجارب مؤلمة بالعقاقير على الأجناس والأعراق المختلفة لتحليل طبائعها النفسية والجسمانية ومدى اختلافها عن الطبيعة الألمانية !
والواقع أن تلك التجارب المعتمدة على دراسة العوامل اللاشعورية من أجل التأثير فيها لم تنته بانتهاء النازية؛ بل فقط أخذت شكلا " ناعما " غير مؤلم ويعتمد على ثقافة تكرار المشاهد والصور المعروضة على شرائح مجتمعية عديدة؛ يقول جوزيف ناى " وقد ساعدت جاذبية الثقافة الشعبية هذه الولايات المتحدة على تحقيق أهداف مهمة فى سياساتها الخارجية، فكان أحد الأمثلة إعادة الإعمار الديمقراطى لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت خطة مارشال ومنظمة حلف شمال الأطلسي أداتين حساسيتى الأهمية للقوة الاقتصادية والعسكرية الهادفة إلى تحقيق تلك النتيجة. ولكن الثقافة الشعبية قد ساهمت فى ذلك أيضا وعلى سبيل المثال فإن المؤرخ النمسوى رينهولد فاغنيلينتر يجادل بأن ( التكييف السريع للثقافة الشعبية الأميركية على أيدى الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية قد أسهم بشكل إيجابى بالتأكيد فى دمقرطة تلك المجتمعات. فقد جدد شباب ثقافة أوروبا مابعد الحرب وأعاد لها حيويتها والمعانى الإضافية المترافقة مع الحرية، والعفوية، والحيوية، والليبرالية المنفتحة، والحداثة وروح الشباب)" [3]حتى واصل هذا النمط تقدمه فى إنهاء الحرب الباردة لصالح الطرف الأمريكى ؛ يقول ناى "فالبرامج الدعائية والثقافية السوفيتية التى كانت تديرها الدولة لم تستطع أن تضاهى تأثير ثقافة أميركا الشعبية التجارية فى المرونة والجاذبية، فجدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفزيون والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من سقوطه فى عام 1989. ذلك أن المطارق والجرافات ماكانت لتنتج لولا انتقال الصور المبثوثة من ثقافة الغرب الشعبية على مدى سنوات طوال فاخترقت الجدار قبل أن يسقط." [4]
بعد كل هذا النجاح فى هذا التأثير الناعم تم اعتباره واعتماده عاملا مهما و" صناعة " قائمة بذاتها تعتمدها الدول الاستعمارية لمزيد من التمدد الإمبريالى والجيوستراتيجى؛ وللأسف تم نقل تلك الصناعة الهدامة إلى أن بات يستخدمها كل الأنظمة الديكتاتورية القمعية وسيلة لتنييم شعوبها وتزييف وعى أفرادها ولكن على مدى أصغر وأضيق مما تمارسه المنظومة الاستعمارية الكبرى على كافة شعوب الأرض حاليا! يقول الدكتور محمد المهدى "فتقوم هذه الأجهزة بالمبالغة فى إظهار إنجازات السلطة وتبرير أفعالها وتحويل هزائمها إلى انتصارات تاريخية كما تقوم بإضفاء صفات البطولة والحكمة والتضحية على رموز السلطة وتضع صورهم وتماثيلهم فى كل مكان - وهو مايسمى فى علم النفس : الإعلان بالغمر أو الإعلان بالتكرار والإلحاح - . وتنجح عمليات تزييف الوعى أكثر فى المجتمعات ضعيفة الثقافة التى لاتملك عقلية نقدية تزن بها الأمور، تلك المجتمعات القابلة للإيحاء والاستهواء والتنويم والتغييب، تلك المجتمعات العاطفية التى يسهل تحريك مشاعرها فى الاتجاه الذى تريده الأدوات الإعلامية للسلطة "[5] .
والخلاصة أن التأثير الناعم بدأ كحلم مادى طوباوى مالبث أن سقط رداؤه المثالى سريعا تحت أقدام المادية الانتهازية التى نجحت فى تطويع أدواته لتحقيق مصالحها الاستعمارية ؛ ليتلاقى الاتجاهات المتغايران " الخيالى الحالم " و " الانتهازى النفعى " تحت مظلة معرفية واحدة " الفلسفة المادية "، فيتشاركان سويا فى صناعة أسوأ منتج فى تاريخ البشرية، لايحارب الإنسانية بأدوات خشنة و معاول مباشرة؛ بل بأساليب ناعمة تنويمية تعتمد على تكرار رسائلهم الرخيصة عبر كافة وسائل الإعلام التقنية ..



[1] عقول المستقبل، جون ج .تايلور ترجمة الدكتور لطفى فطيم صـ245 ،246 إصدار سلسلة عالم المعرفة – الكويت - 1985
[2] بمعنى الخيالى وليس بمعنى " الفلسفة المثالية "
[3] القوة الناعمة جوزيف س. ناى ط.أولى 2007م العبيكان، السعودية صـ82،83
[4] المصدر السابق، صـ83،84
[5]د.محمد المهدى ،علم النفس السياسي- دار اليقين للنشر ط أولى 2009 ص74-75