الاثنين، 2 يونيو 2014

الدراية واللاأدرية فى العقل والحواس !



حكم الوضعيون والتجريبيون بكون الحس والتجربة يخبرونا باستحالة وجود اللامحسوس، وإذا أردنا الدقة على ذلك الحكم اليقينى – لديهم - نجده  حكما فى منتهى الظلم والقسوة، لأن الحس والتجربة لايحكمان إلا على الأشياء " المكتشفة فقط " دون الموجودات غير المكتشفة؛ أى أن التجربة لها أن تقطع " الآن " مثلا بوجود البكتيريا والميكروبات والموجات الكهرومغناطيسية فى حين كانت قديما تعبر عن رأيها فى وجود تلك الأشياء " بعدم العلم بها " وليس " بنفى وجودها من الأساس ! " تماما مثلما لايقطع العلم الآن بوجود حياة على سطح كوكب عطارد دون أن ينفى وجود تلك الحياة " من الأساس " فهكذا العلوم الطبيعية وهكذا قدرات الحواس والتجارب إذا قسناها أيضا على قضية وجود غير المحسوسات من عدمها – كما قسناها من قبل على قضية وجود حياة على عطارد - فشهادتهما لا تقوم على الإنكار بقدر ماهى تقول " لا أدرى إن كان هناك موجودات لاترى ولاتدرك بالحس والتجربة أم لا " ..
حينئذ فإن كانت الحواس لاتدرى فينبغى ألا تقطع بأن " العقل " هو الآخر لايدرى مثلها، لأنها فى هذه الحالة لاتدرى بقدرات العقل أيضا ولاتستطيع أن تضع له حدودا للمعرفة ولا مجال لأن تقارن معرفتها بمعرفته طالما أن منطقة العقل تبدو فى حيز إمكاناتها كمن يسألها أيضا نفس السؤال المبهم " ماحقيقة وجود ديناصورات فى كوكب زحل أو كائنات أكثر دقة من الميكروبات تصيب الميكروبات بالوهن والضعف ؟؟ " و الإجابة التجريبية العلمية على هذا السؤال بـ " لا أدرى " هى ذاتها الإجابة على سؤال " ماحقيقة أن العقل يستطيع التوصل إلى وجود أشياء غير مادية ؟ "
 بالتالى نعود إلى العقل لكى يقرر هو مصيره " بمعزل عن الحواس والتجارب " فإن حاول ووجدناه يتوصل إلى حقائق ميتافيزيقية فهو الأدرى بوجودها " لا الحواس والتجارب " وإن حاول ولم يتوصل إلى شيء فقد حكم هو الآخر على نفسه بأنه لايدرى " دون أن يحكم أيضا على انتفاء الموجود الميتافيزيقى " ..
فما بالك إذن وأن العقل قد قدم إجابات على ذلك السؤال؛ بل وإجابات قائمة على مبدأ " السبب والنتيجة " وهو نفسه المبدأ المستخدم فى التجارب العلمية المرئية، فاعتمد – بالتأمل والتحليل العقلى - كون كل شيء راجع فى وجوده إلى سبب لإيجاده؛ كذلك فالسبب يحتاج إلى سبب وهكذا إلى أن تنتهى سلسلة الأسباب إلى " السبب الذاتى " الذى هو سبب لكل موجود بعده؛ ولاسبب فى ايجاده قبله .. ولكن لماذا لاسبب يسبقه؟ لأنه لو تسلسلت مجموعة الأسباب إلى " مالانهاية " لانتفى وجود الموجودات من الأساس ! تصور معى أن للوجود بيت لايمكنك أن تدخله إلى اعتمادا على " د " الموجود بالدار والذى يشدك إلى بيت الوجود، و"د" أيضا سبب إدخاله لبيت الوجود هو " ج " .. و"ج" كان " ب " من أدخله إلى دار الوجود .. فبلا أدنى شك ينبغى أن ينتهى ذلك إلى " أ " الذى هو أول داخل لدار الوجود دون اعتماد على أحد بالداخل يكون سببا فى إدخاله .. بحيث يكون " أ " مثلا قد دخل دار الوجود " بذاته " دون " غيره " ؛ ولكن ماذا إن أخبرك أحدهم أنه لايوجد " أ " الذى دخل بذاته كسبب أول ليس قبله سبب ؟ أنت مضطر عنئذ إلى الاستنتاج البديهى بأن بيت الوجود حينها لن يدخله أحد لأن "أ" سينتظر أحدا آخر ليدخله للدار والأحد الآخر سينتظر شخصا آخر وهكذا وكذلك فإن "ب"  و"ج" و"د" و " ه " ثم " و"  لم يدخلوا دار الوجود أصلا  انتظارا  لـ" أ" الذى مازال ينتظر سببا ينتظر سببا آخر وهكذا ، ولهذا كان قول الفارابى " لو تسلسلت العلل – أى إلى مالانهاية - لما وجد المعلول ! " .. إذن فالذى دخل دار الوجود بذاته "كالموجود أ فى المثال" كانت ذاته سببا فى دخوله لتلك الدار، من هنا جاءت القاعدة العقلية العبقرية " كل مابالغير يعود إلى مابالذات، والذاتى لايعلل. " أى لا تبحث له عن سبب خارج عن ذاته   ..
وطالما – بحسب الدليل العقلى – هناك الموجود الأول الذاتى الوجود فلابد ألا يتوقف هذا السبب فى وجوده على مسببات أخرى، من هنا فلن يصدق العقل أن يكون الأول ماديا بطبيعته؛ لأن المادة يلزمها حيز من الفراغ تشغله ومكان تنتقل فيه وزمن يعبر عن مقدار حركتها أو تغيرها ؛ فيصير الحيز والمكان والزمان " أسبابا " أخرى لوجود هذا الموجود، من هنا استنتج العقل حتمية كون الموجود الأول " واجب الوجود " هو السبب لكل الموجودات وهو المحال فى طبيعته وكنهه أن يكون ماديا ..
ولكن ولأن " العقل " البشرى استنبط أن كون الموجود الأول " غير مادى بالمرة " فإن ذلك العقل يخلص إلى عدد من النتائج الفاصلة بناءا على ماتقدم؛ ومنها على سبيل المثال " لا الحصر " :-
·        أن الحس والتجربة " لن يمكنهما " التوصل إلى كشف ذلك الموجود الأول؛ لأن ليس بمقدورهما إلا كشف " الموجودات المادية فقط " بحكم طبيعة الحواس المادية هى الأخرى. فالعين لن ترى ماليس له أبعاد ولايشغل حيزا من الفراغ مثلا..
·        أن طبيعة " العقل " وهو الكاشف عن تواجد " الموجود الأول غير المادى " ينبغى أن تكون هى الأخرى " مجردة من المادية " لذلك آمن العقل بأنه نفسه " مجرد " عن المادية لأنه بمقدوره كشف وجود المجرد.
·        ولأن العقل الإنسانى" موجود من الموجودات " فإنه يتوقف فى وجوده على سلسلة من العلل العقلية تنتهى إلى " الموجود الذاتى " الذى هو العاقل بذاته لذاته ولايحتاج إلى " عقل " آخر لكى يوجده فيعقل به ذاته ..
بالتالى استنتج العقل وجود الموجود الأول العاقل الذاتى الوجود وهو علة الخلق وخالق العالم بحكمته وعلمه وفضله على أفضل إحكام وأحسن تقويم .. فهل بعد هذه الإجابة العقلية الشافية يجادل المجادلون بأن وجود الخالق طالما لم يؤكده العلم والتجربة فلن نؤمن به؟ إن كانت تلك " إجابة " فهى رد إنسان لا عقل لديه؛ فقط يعتمد على " لاأدرية " الحس فى الوقت الذى أهمل فيها " دراية " العقل الواضحة وإجاباته العقلية القاطعة.. وليس لأحد أن يقول بعد ذلك أن تلك الإجابات عقلية تأملية لادليل علمى عليها ! ومنذ متى أيها السائل يحتاج العقل " الذى يعلم ويدرى" إلى معونة الحس الذى " لايدرى " فى التوصل إلى تلك الحقائق؟ للأسف فتفكير السائل لذلك السؤال مازال تحت تأثير " الحس والتجارب "
نعود لما قيل فى البداية؛ فإن كانت الحواس لاتدرى فينبغى ألا تقطع بأن " العقل " هو الآخر لايدرى مثلها بل إن العقل قد أجاب ومن المنطقى ألا يعتمد بشكل كلى فى إجاباته على " الحواس والتجارب " القاصرة فى هذا المجال الميتافيزيقى.
وفى النهاية ما أروع كلمات الدكتور سليمان دنيا فى ذلك الشأن حين قال "إن الحكم بأن الإنسان لايستطيع أن يجاوز حدود خبراته الحسية الذى هو شعار الوضعيين وأساس مذهبهم، ليس فى وسع الحس أن يتولى أمر النظر فيه، وهو إذن حكم عقلى ! " أى قضية ينبغى أن نرضى فيها بحكم العقل " العارف " لابحكم " الحس والتجارب " اللاأدرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق