الاثنين، 9 يونيو 2014

فلسفة الحروب الناعمة

بحث منشور بالبديل الإلكترونى

http://elbadil.com/2014/06/09/%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%88%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%A7%D8%B9%D9%85%D8%A9/



بعيد نظرية دارون العلمية المثيرة للجدل حول النشوء والارتقاء، تفتحت مجالات واسعة لكثير من العلماء والمفكرين للخوض فى بحوث حول " ماهية الذكاء الإنسانى " وكيفية تطويره وتنميته – علميا ومختبريا- عبر معرفة آليته أولا ؛ ومن ثم التحكم فى زيادة معدلاته بما يضمن تحقيق السعادة الإنسانية المرتبطة عند الكثير منهم بزيادة أعمار الإنسان وتقليل الانفعلات المؤدية إلى الحروب والنزاعات وتزويد معدلات الاطمئنان والراحة النفسيين ..
وقد اتجه عديد من العلماء والمفكرين خاصة فى بدايات وأواسط القرن العشرين إلى تقديم لوحاتهم الإبداعية التى تعبر عن أحلامهم وآمالهم فى تقدم ورقى الإنسان؛ فعالم مثل جون تايلور يحدثنا عن أحلامه فى المستقبل بقوله " ستختلف التربية الجديدة عن القديمة فى عدة أمور، أولا ستستخدم أساليب جديدة لتحسين الذكاء عن طريق إثراء البيئة المبكرة الأولى، بالإضافة إلى تطعيم المخ لدى الأطفال الصغار وهندسة الوراثة .. كما يتضمن أيضا تحسين الذاكرة بوسائل كيميائية، وهو أمر نكاد نحققه ، ويمكن إتاحته على نطاق الكون كله إلى مستويات أعلى وأوسع"[1] .. إلى أن قال " وسينتشر استخدام مختلف العقاقير التى تزيد من الانتباه، وكذلك التعلم بتأثير النوام !." نعم لقد نطق بها !! فالتعليم عبر التنويم، الذى يخاطب اللاإدراك أو المنطقة اللاوعية من الذهن، يبدو حلما يوفر أسهل وأكثر الحلول إراحة للمتلقى وذلك عبر بث العلم داخله لا بطريقة الشرح والاستدلال بل بالكبسولات التى تحمل محتويات علمية جاهزة تلقى مباشرة إلى لاوعيه لترسم لوحة كبيرة من المعلومات بحيث يستيقظ المتلقى ليجدها كامنة بداخله ومغروزة فى وجدانه وكأنه مولود بها!
كانت فلسفة استثمار المنطقة اللاواعية من الذهن البشرى مبدؤها حلما مثاليا[2] يحقق السعادة وأقصى درجات المتعة للإنسان دون تكليفه عناء البحث والقراءة والتدقيق؛ تماما كالوجبات الجاهزة السريعة وثقافة الديلفرى التى تجنب الكثيرين عناء شراء الخامات والطبخ ! ولأن حلم استثمار التعليم عبر النوام أو التنويم بدأ غرضه طوباويا غارقا فى المادية فكان من الطبيعى أن تمتزج بنوع من الاشتراكية الخيالية التى بموجبها يحقن العلماء كل الأجناس البشرية بعقاقير زيادة الذكاء والكبسولات العلمية والأخلاقية اللازمة أيضا؛ على غرار فيلم " أرض النفاق " الذى وضع البطل الحالم فيه حبوبا للشجاعة والصراحة فى نهر النيل بأسوان حتى يشرب منه جميع المصريين !
ولأن أكثر منتهجى الثقافة المادية بطبيعتها وطبيعتهم يتسمون بالواقعية الشديدة؛ فكان من الطبيعى أن تحرز العديد من المساعى العلمية المبتنية على اختبارات سوسيولوجية وسيكولوجية وباراسيكولوجية تقدما كبيرا فى مجال مخاطبة اللاشعور وبث الرسائل والأفكار المراد إقناع الأفراد بتبنيها دونما أن تمر على عقل الإنسان وذهنه المنطقى الواعى؛ هذه المنطقة التى تكترث بالدليل وتهتم بالخطاب العقلى الإنسانى .. ولكن هذا التقدم المستمر تم استثماره للأسف لا فى تحقيق آمال لإسعاد البشر " على الطراز المادى " بل ابتدأ البحث الجاد فيه فى ألمانيا النازية وأجريت تجارب علمية على الإنسان نفسه لكى يتقبل المجتمعات فكرة النازية ويتم غسيل العقل المجتمعى الدولى من أجل خدمة القومية الألمانية وأفكارها آنذاك ! وكان من تلك الأبحاث على المساجين والأسرى لدى سجون الألمان؛ تجارب مؤلمة بالعقاقير على الأجناس والأعراق المختلفة لتحليل طبائعها النفسية والجسمانية ومدى اختلافها عن الطبيعة الألمانية !
والواقع أن تلك التجارب المعتمدة على دراسة العوامل اللاشعورية من أجل التأثير فيها لم تنته بانتهاء النازية؛ بل فقط أخذت شكلا " ناعما " غير مؤلم ويعتمد على ثقافة تكرار المشاهد والصور المعروضة على شرائح مجتمعية عديدة؛ يقول جوزيف ناى " وقد ساعدت جاذبية الثقافة الشعبية هذه الولايات المتحدة على تحقيق أهداف مهمة فى سياساتها الخارجية، فكان أحد الأمثلة إعادة الإعمار الديمقراطى لأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت خطة مارشال ومنظمة حلف شمال الأطلسي أداتين حساسيتى الأهمية للقوة الاقتصادية والعسكرية الهادفة إلى تحقيق تلك النتيجة. ولكن الثقافة الشعبية قد ساهمت فى ذلك أيضا وعلى سبيل المثال فإن المؤرخ النمسوى رينهولد فاغنيلينتر يجادل بأن ( التكييف السريع للثقافة الشعبية الأميركية على أيدى الأوروبيين بعد الحرب العالمية الثانية قد أسهم بشكل إيجابى بالتأكيد فى دمقرطة تلك المجتمعات. فقد جدد شباب ثقافة أوروبا مابعد الحرب وأعاد لها حيويتها والمعانى الإضافية المترافقة مع الحرية، والعفوية، والحيوية، والليبرالية المنفتحة، والحداثة وروح الشباب)" [3]حتى واصل هذا النمط تقدمه فى إنهاء الحرب الباردة لصالح الطرف الأمريكى ؛ يقول ناى "فالبرامج الدعائية والثقافية السوفيتية التى كانت تديرها الدولة لم تستطع أن تضاهى تأثير ثقافة أميركا الشعبية التجارية فى المرونة والجاذبية، فجدار برلين كان قد تم اختراقه بالتلفزيون والأفلام السينمائية قبل زمن طويل من سقوطه فى عام 1989. ذلك أن المطارق والجرافات ماكانت لتنتج لولا انتقال الصور المبثوثة من ثقافة الغرب الشعبية على مدى سنوات طوال فاخترقت الجدار قبل أن يسقط." [4]
بعد كل هذا النجاح فى هذا التأثير الناعم تم اعتباره واعتماده عاملا مهما و" صناعة " قائمة بذاتها تعتمدها الدول الاستعمارية لمزيد من التمدد الإمبريالى والجيوستراتيجى؛ وللأسف تم نقل تلك الصناعة الهدامة إلى أن بات يستخدمها كل الأنظمة الديكتاتورية القمعية وسيلة لتنييم شعوبها وتزييف وعى أفرادها ولكن على مدى أصغر وأضيق مما تمارسه المنظومة الاستعمارية الكبرى على كافة شعوب الأرض حاليا! يقول الدكتور محمد المهدى "فتقوم هذه الأجهزة بالمبالغة فى إظهار إنجازات السلطة وتبرير أفعالها وتحويل هزائمها إلى انتصارات تاريخية كما تقوم بإضفاء صفات البطولة والحكمة والتضحية على رموز السلطة وتضع صورهم وتماثيلهم فى كل مكان - وهو مايسمى فى علم النفس : الإعلان بالغمر أو الإعلان بالتكرار والإلحاح - . وتنجح عمليات تزييف الوعى أكثر فى المجتمعات ضعيفة الثقافة التى لاتملك عقلية نقدية تزن بها الأمور، تلك المجتمعات القابلة للإيحاء والاستهواء والتنويم والتغييب، تلك المجتمعات العاطفية التى يسهل تحريك مشاعرها فى الاتجاه الذى تريده الأدوات الإعلامية للسلطة "[5] .
والخلاصة أن التأثير الناعم بدأ كحلم مادى طوباوى مالبث أن سقط رداؤه المثالى سريعا تحت أقدام المادية الانتهازية التى نجحت فى تطويع أدواته لتحقيق مصالحها الاستعمارية ؛ ليتلاقى الاتجاهات المتغايران " الخيالى الحالم " و " الانتهازى النفعى " تحت مظلة معرفية واحدة " الفلسفة المادية "، فيتشاركان سويا فى صناعة أسوأ منتج فى تاريخ البشرية، لايحارب الإنسانية بأدوات خشنة و معاول مباشرة؛ بل بأساليب ناعمة تنويمية تعتمد على تكرار رسائلهم الرخيصة عبر كافة وسائل الإعلام التقنية ..



[1] عقول المستقبل، جون ج .تايلور ترجمة الدكتور لطفى فطيم صـ245 ،246 إصدار سلسلة عالم المعرفة – الكويت - 1985
[2] بمعنى الخيالى وليس بمعنى " الفلسفة المثالية "
[3] القوة الناعمة جوزيف س. ناى ط.أولى 2007م العبيكان، السعودية صـ82،83
[4] المصدر السابق، صـ83،84
[5]د.محمد المهدى ،علم النفس السياسي- دار اليقين للنشر ط أولى 2009 ص74-75




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق