الجمعة، 30 مايو 2014

الشعب يفرض ثوابته !


منشور بالبديل الأسبوعى عدد19 بتاريخ 28-5-2014



بالأمس القريب، استجابت الجموع الشعبية لنداءات الخامس والعشرين من يناير ( عيش – حرية – عدالة اجتماعية ) وتاقت إلى الثورة على الفساد بجميع أشكاله .. ثم انتخبت غالبيته الفئة التى " هيتقوا ربنا فينا " ، فى الوقت الذى اتهمه العديد من " النخب " أنه شعب " الزيت والسكر " !
وبالأمس الأقرب، ومع نداء الوطنية والحفاظ على " الدولة " ونسيجها الوطنى الواحد؛ تعاملت الجموع الشعبية بإيجابية أيضا، وبغض النظر عن عملية " المتاجرة" بتلك الشعارات الفائتة إلا أن الزاوية التى ننظر إليها لمدى الاستجابات الشعبية المتعاقبة ينبغى أن تكون جديرة البحث والتحليل .. إن ثمة مبادئ وأسس شعبية يجتمع عليها أفراد مجتمعنا: كالعدالة ، حب الدين والقيم الأخلاقية، الحفاظ على تماسك مؤسسات الدولة ووحدة نسيجنا الوطنى، وأخيرا وليس آخرا، تفضيل الدولة المركزية القوية المحافظة على حدودها والمحققة للأمن بين أفرادها..
قد يقول قائل : مالجديد إذن فيما تقوله؟ إن جميع الشعوب تنحاز إلى كل ماذكرته من " بديهيات " ! .. لكن ورغم وضوح تلك المبادئ، هل حقا استوعبتها الأطياف السياسية التى تعاقبت علينا منذ ثورة يناير وإلى الآن؟ هل قدم التيار الإسلامى طرحا يعتز بأصالة القيم والثوابت الوطنية ؟ وهل النظام الحالى الرافع شعار الوطنية قد قدم هو الآخر مايؤكد فيه حرصه على تماسك القماشة المصرية ووحدة عناصره ؟؟ أقول ذلك فى خضم الممارسات " الإقصائية " الحالية التى نشهدها .. وهل الشباب الذى مازال يدافع بقوة عن منطلقات ثورة يناير؛ مازال يراهن على الحل الثورى بنفس الشعارات والمعطيات اللفظية السابقة؛ كإسقاط " النظام " وسقوط " العسكر " ؟ وهى المصطلحات التى لن تجد من الجموع الشعبية الآن سوى المقاومة والمزيد من النفور وزيادة فجوة التواصل مع الشباب الثورى .. بمعنى آخر ، هل استوعب الجميع الثوابت الوطنية التى توافق عليها مجتمعنا فراعوها وأكدوا على حقانيتها؟ بالطبع لا .. وإلا ما كنا وصلنا إلى هذا الحال من التشرذم والتفكك ..
عندما رفع البعض شعار " علمانية علمانية " لم يستجب أحد، وعندما تم استبدال الشعار إلى " مصر أولا " كانت الاستجابة كبيرة، هكذا نجح البعض فى اختيار ألفاظ مختلفة ومناسبة للتعامل مع العقلية المصرية دون إخلال بالفكرة ذاتها، وهكذا نجح المشير السيسي فى طرح لغة خطاب خاصة به تجمع بين " لغة القوى ولغة المتدين ولغة الوطنى " فى حين مازال خصومه الثوريون محافظين على نفس مصطلحاتهم المنفرة كـ" ثورة على النظام " ، " دولة العواجيز "  ،" الجيش العميل الخائن "!!
هذه الرسالة الموجهة للعديد من الشباب لاتدعوهم للتنازل عن أفكارهم ومبادئهم ، بل النزول بها وتقديمها عبر لغة مستساغة وطريقة سلمية ملتصقة بمطالب الجماهير ومراعية للخطوط الحمراء التى وضعتها الجموع الشعبية، بلا استهانة أو تجاوز لضرورات هامة كالأمن والتماسك الوطنى وثبات مؤسسات الدولة، فقط كلمة " الحكومة " قد تكون أقل قسوة من " النظام " لما للأخيرة من وقع وأثر على المتلقى لايفرق فيها بين " الدولة " والنظام ، كذلك لابد فى الوقت نفسه من المطالبة بتطهير جميع مؤسسات الدولة من مظاهر الفساد والعمالة ولكن مع الحفاظ على ضرورة أن يقوم " أبناء" كل مؤسسة بتطهيرها بأنفسهم مثلما يحدث فى العديد من حركات التغيير والتنمية ، هذه الاستدراكات " تطمئن " المتلقى على كون المرسل لايقصد الفوضى ولايحب التفكيك والتفتيت بقدر مايمقت الفساد وينشد التوزيع العادل للثروة فى مصر، ولن أكون متماديا إذا طالبتهم باستبدال مصطلح " ثورة " بمصطلح " عدالة " مثلا أو أى مصطلح يخفف من وطأة كلمة " الثورة " دون إخلال بالمعنى المراد أيضا..
لن أقول لأصدقائى من الشباب الثورى المناضل " ابدأوا بالتعقل ونيل الحكمة وابحثوا عن بدائل " فقد بح صوتنا ونحن نطالبهم بها حتى اتهمنا عديدهم بالتنظير " المثالى " ، لكن تلك المرة فالحديث واقعى لدرجة البساطة الشديدة والرسالة مستوحاة من ثوابت يفرضها الشعب علينا ولاتناقض المعقول أو تناطح المنطق، فقط المطلوب هو احترام ثوابت هذا الشعب ومنطلقاته والتعامل معه بلغة " الرافع لمطالبهم " وليست لهجة " مبعوث العناية الإلهية لتعليمهم وتأديبهم " !

الجمعة، 23 مايو 2014

نخبة !




بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وبعيد فشل و " إفشال " مشروع الاخوان ..
النخبة فى مصر لايملكون مشروعا حقيقيا
لاتوجد نخبة فكرية حقيقية فى مصر تقود المجتمع نحو الصعود والرقى
وما الحل إذن؟ ..
لابد أن نجد بديلا نخبويا يقدم اطروحة " حقيقية " للبناء

وبعد أن يقدم فلان أو علان طرحه التقدمى ..
إنه مشروع فاقد للمعايير
يتحدث عن الإصلاح وكأن لديه الحق المطلق وماعداه باطل لايكون
إن مشكلتنا فى احتكار الحق والتعامل مع جميع القضايا بميزان الصحة والخطأ أو الحق والباطل !
ممم ، والحل؟
الاختلاف والتنوع هو أساس النهوض المجتمعى والإبداع يتولد أولا عبر النقد والاختلاف !!

وبعد الاختلاف ..
إن ما آل إليه عمق الخلافات بين الفئات النخبوية يمثل مناخا غير صحى بالمرة
حقا ليس لدينا ثقافة الاختلاف ؛ فخلافاتنا دائما ما تكون متبوعة بالاستقطابات والثنائيات المخيفة
لابد من " استبعاد " الأطراف التى تزيد من هوة الاختلاف ؛ فالنسيج الوطنى لا يحتمل التمزق أكثر من ذلك !
ممم ثم ماذا؟
ثم نبدأ على معايير وأسس للعمل المجتمعى الرائد لأنه للأسف لاتوجد نخبة حقيقية تتصدر المشهد العام !!
للأسف مشكلتنا أن نخبتنا الحالية لاتملك مشروعا " حقيقيا " !
،
وبعد تأملك لخاتمة تلك المشاهد يتضح أن ماينتهى إليه الكلام هو بعينه مابدأ به الحديث؛ وهى مانسميها " الدائرة المفرغة " والخالية من أى حل ؛ مزج بائس من التناقضات بين الحلول لدرجة تجعل المتلقى إما يستسلم لليأس أو يخلد إلى سبات العبثية أوالعدم !
ولكى تكون الرسالة التى يتضمنها المقال واضحة ، اسأل نفسك تلك الأسئلة التى تحمل إجاباتها معها :-
من الذى يتحدث مطالبا بتواجد نخبة جديدة؟
النخبة !
ومن لايعجبه الحلول النخبوية المتجددة؟
النخبة !
ومن يطالب بالتنوع ويرحب بالاختلاف البناء ثم يصرخ مناديا بالإقصاء ؟
خزاعة !

الخميس، 15 مايو 2014

مستوى آخر من التدنى الأخلاقى !

منشور بالبديل الأسبوعى عدد 17 بتاريخ 14-5-2014



بعد أن تحرش مجموعة من الشباب بالبنت المظلومة؛ و أمام أبيها المسكين؛ ظل الأب يصرخ فى الشارع «ابنتى السبب !! هى من جعلت الشباب يتحرشون بسبب ملابسها الضيقة، لقد رفضت أن تنزل إلى الشارع بهذه الملابس الملفتة لكنها أصرت على ارتدائها !»، بينما كان المارة يحاولون إخماد ثورته الغريبة وتوضيح أنه لا توجد مشكلة فى ملابس ابنته، ولا يجب لومها على خطأ لم تفعله  !

لم تكن الغرابة فى التحرش! أقولها وأنا أتألم لأن مظاهر التحرش باتت – على خستها – معتادة فى أخبار الحوادث واليوتيوب والبرامج ، كما لن نستغرب أن مهرجانات التحرش فى أعياد المسلمين والمسيحيين وأعيادنا القومية قد تكتسب صفة المسابقات الرسمية ، مثلما سمعنا عن " بطولة العالم فى الشيشة " مثلا !

لكن الغرابة فى أن تنتهك آدمية البنت أمام أبيها لدرجة تجعل هذا البائس يدارى ضعفه وانتهاك كرامته وقوامته بأن يصب غضبه فى ابنته !! وبعيدا عن الجدل السطحى البغيض والثنائية المقيتة حول " من المسئول .. البنت وملابسها أم الشباب المتحرش " والذى لايحل المشكلة لأن توصيفها الحقيقى غائب للأسف ..

المشكلة تعدت غياب الأخلاق والفضيلة عند الجميع؛ شباب فقدوا كل صفات الإنسانية والأخلاق؛ بل وصل التمادى لا إلى سلب الفتيات حياءهن وكرامتهن ؛ بل إلى فعل الفحشاء أمام أهاليهن أيضا ! مالرسالة التى ينبغى للآباء أن يتلقوها حينئذ عندما يتحرش " أشباه البنى آدمين " ببناتهم؛ وما مغزى أن تتحرش بالزوجة أمام زوجها ؟
لم يعد كافيا أن ننزع من الأنثى كرامتها وحقوقها فحسب؛ بل من الضرورى أيضا أن نقتل فيها احترامها لوالدها واحتمائها برب أسرتها؛ وهى آخر معاقل الأمان لديها؛  وهو واقف عاجز عن مقاومة الذئاب، ولا مانع أيضا أن نسلب منه إحساسه بالشهامة وهو حامى الأسرة ومصدر أمانها.

نعم إنه تطور خطير فى مستوى التدنى الأخلاقى وانحدار يستحق " وقفة " مجتمعية كاملة فى التعامل معه !! وقفة ؟؟ ماهذا الذى أقوله ؟؟ لم يقف أحد منذ البداية على التدنى الأخلاقى الذى أصابنا من جراء الانفتاح فى السبعينيات؛ ولم يقف أحد أمام ظاهرة البلطجة التى بدأت فى التسعينات عبر رجال الأعمال الذين أدخوا موضة " البودى جارد " فى مصر وزادوا من جبروتهم إلى حد لانتصوره؛  ولم نقف أمام الزيادة المفرطة للعشوائيات ولم نتحرك ونحن نرى الشتائم البذيئة ورفع الشباشب فى برامج التوك شو؛ بل رأينا كيف أن الأكثر " بلطجة " ينال حقوقه والأكثر بذاءة يتصاعد فى المناصب، فلماذا نقف أمام ذلك المشهد والسينمائيون والفنانون أنفسهم لم يقفوا لمقاومة ظاهرة أفلام الخسة والجنس التى تهدد مصداقية الفن بوجه عام ؟  لماذا لا نقف أمام الانتهاك الصارخ لحقوق الناس ونحن نرى آلاف السجناء بلاذنب سوى أن منهم من رفع لافتة أو وضع " دبوس " أو ذهب للتسوق أو عاد من امتحان فتصادف وجوده مع مظاهرة فتم الزج به فى السجن لأن " شكله باين عليه اخوان " .. ثم يطلب منا أن نقف أمام مشهد التحرش هذا ..
العدالة والشرف والكرامة قيم لا تتجزأ أيها السادة ؛ ومن يعجبه انتهاك كرامة المسجونين ظلما؛ لا خير فيه وإن أسخطه انتهاك شرف وكرامة البنت وأبيها. فى الحقيقة لقد سحبت ندائى " بالوقفة " وذلك لقلة السامعين وندرة العاقلين؛ فقط يتبقى لى شجبى ورفضى واعتراضى لكل مظاهر التدنى الأخلاقى ومستوياته ؛ فقط معذرة إلى الله وكفى بالله ناصر وشهيدا .. 

الأحد، 11 مايو 2014

فى ظل عدالة محمد عبده !



منشور بالبديل الأسبوعى عدد 16 بتاريخ 7-5-2014
 
حاكم متسلط بالجودة؛ يحكم بالعدل والسُنة وتذوب مصلحته الشخصية فى مصلحة العدالة وتحت حاكمية القوانين التى هى بالأساس المعبر الأحكم لتسييس مصالح الناس، لا ديكتاتور يحكم بأهوائه ويقود الناس لما فى عزته ومصلحته هو..
حاكم يربى ويعلم المجتمع الفضيلة ويعيد أفراده ومتسلطيه إلى الرشد والصلاح، ذاك المجتمع الممتلئ عن آخره أمراضا نفسية؛ واعوجاجا فكرى وعقلى وتشوها إنسانيا جراء تعاقب المستبدين عليه وتكالب الفاسدين على ثرواته وانتزاع الطغاه لأسس كرامته.
خمس عشرة عاما، كما قدرها محمد عبده، أو عشرين مثلما يرى أفلاطون قديما؛ هى أعوام كافية ليفرز المجتمع نخبا علمية وفكرية وأخلاقية حقيقية تقود الأمّة بعد ذلك إلى الفضيلة وتوفر لها البيئة المناسبة للترقى والإصلاح .
أعوام عديدة يتعلم النشء فيها، فى أكاديمية أفلاطون، فنون الفلسفة والحكمة والطبيعيات ومختلف الفنون والقتال والأخلاق؛ فيصير النابغة منهم حكيما فيلسوفا ينضم إلى مصاف أقرانه ممن يقودون الباقيين إلى كمالهم ويوجهون باقى أفراد المجتمع إلى سبل الخير وما فيه صالح المجتمع .. وسنين طويلة يربى " المستبد العادل " أفراد مجتمعه على الفضائل ويقوّم اعوجاجهم كما أوضح الإمام محمد عبده، وقد أفرد ابن رشد طرقا ثلاث تمكّن الحاكم " الحكيم " من التعامل مع فئات المجتمع " المدينة " بغرض غرز القيم الأخلاقية بداخله، قال عنها ابن رشد فى كتابه تلخيص السياسة " إن أفلاطون قد تطرق عند حديثه عن فضيلة الشجاعة ، وعن كيفية ترسيخ وغرس الفضائل فى نفوس أهل المدينة ، إلى افضل الوسائل لفهمها وكيفية اكتسابها والحفاظ عليها من قبل أهلها ، وإلى الطرق الأكثر كمالا ، التى هى بالنسبة لنا البحث فى الغرض والغاية من معالجة مثل هذه الفضائل فى المدينة "
وهى ثلاثة مستويات لإقناع الناس بالفضيلة وأهميتها وتفعيل التزام الناس بها :
الطريقة الأولى : التعليم بالمعارف النظرية القائمة على البرهان والدليل العقلى، ويقول عنها ابن رشد " غير أن طريقة تعلم العلوم النظرية التأملية إنما هى للخواص، وهو المنهج الصحيح والقويم كما سنبين ذلك فيما بعد"
الطريقة الثانية : وهى طريقة الإقناع بما يخاطب عقلية العامة وذلك عبر "غرس الإقناع فى نفوسهم من خلال الأقاويل الخطابية والشعرية . وهذا جزء من العلوم النظرية التأملية الخاصة بخطاب الجمهور" كما يقول ابن رشد، حيث يبين مدى استعداد الناس لتلقى ذلك النمط من الإقناع بقوله " فإن إيمانهم أو اعتقادهم بمعرفة المبدأ الأول والغاية النهائية التى يجاهدون للإيمان بها على قدر استعدادهم الطبيعى، نافع فى تهيئتهم للفضائل الخلقية الأخرى للسلوك العملى ."
الطريقة الثالثة : وهى عند تعذر الإقناع بطريقتى " التعليم بالبرهان " أو " الإقناع بالخطابة والمواعظ " وهى المسماة " الإقناع بالقسر أو الإكراه " وتستخدم لمن لايؤمنون بالحق فى ذاته ومن يرفضون انتهاج العقل والحجة أو القيم الإنسانية العامة كقنوات طبيعية للتواصل وإنما لايفهمون سوى لغة القوة ولايقتنعون إلا بالإكراه، وهؤلاء لايمكن مخاطبتهم إلا بما يفهمون – أى بالقوة – وذلك ليس من دافع انتقامى أو رغبة فى العقوبة فى ذاتها، بل هو نفس المبدأ الثابت المتمثل فى الإصلاح والهداية والتربية الروحية والنفسية لبسط العدل ودفع المظالم عن المجتمع ومعالجة آثار التشوه الأخلاقى والفكرى.
 وقد فسر ابن رشد تلك الطريقة ووصف مصاديقها بدقة بقوله " وتدعى بطريقة القسر والإكراه باستعمال العقاب الجسدى . ومن المؤكد أن هذه الطريقة لا يُلجأ إليها بين أهل المدينة الفاضلة . وحتى لو كانت هذه الطريقة قد استخدمت ضرورة ، فليس للإكراه المطبق على الأمم الضالة ... لكن هذه الطريقة للتعليم بالإكراه نادرة الوقوع فى المدينة التى وصفناها فى هذه المقالة- أى المدينة الفاضلة -  أما فى الأمم الأخرى فإن هذا الأمر مقبول نوعا ما. وفى شريعتنا ، فإن ما يصدق على الدساتير التى تتبع نموذج الدساتير الإنسانية يصدق عليها ، لأن الطرق التى تعود إلى سبيل الله إنما تشابه هاتين الطريقتين ، أى الإقناع والإكراه ..  "
نعود إلى السؤال الأهم : ثم ماذا بعد أعوام " التحوّل " الخمس عشرة؟
يجيب مولانا الإمام محمد عبده قائلا " حتى إذا عرفت الأفكار مجاريها بالتعريف، وانصرفت إلى ما أعدت له بالتصريف، وصح الشعور بالتعليل، واستقامت الأهواء بالتعديل، أباح لهم- أى الحاكم- من غذاء الحرية مايستطيع ضعيف السن قضمه، والناقه من المرض هضمه، وأول مايكون ذلك بتشكيل المجالس البلدية، ثم بعد سنين تأتى مجالس الإدارة، لا على أن تكون آلات تدار، بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار، ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية. نعم ربما لايتيسر لرجل واحد أن يشهد هذا الأمر من بدايته إلى نهايته، ولكن الخطوة الأولى هى التى لها مابعدها، ويكفى لمدها خمس عشرة سنة، وما هى بكثير فى تربية أمَه، فضلا عن أمّة. "
بذلك تأخذ شكل الحكومة منحى قائما على " المشاركة " وتعود حرية إرادة الشعوب مرة أخرى لتأخذ دورا فعالا فى المساهمة بالقرارات، ويحتال النظام من حاكمية " المستبد العادل " إلى " الديمقراطى العادل " وهذا ماسنتعرض إليه بالتفصيل فى مقالنا القادم إن شاء الله.

الخميس، 1 مايو 2014

خمس عشرة سنة !



 منشور بالبديل الأسبوعى، عدد 15 بتاريخ 30-4-2014 


" مستبد يُكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويُكره الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه فى منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على مافيه سعادتهم بالرغبة، عادل لايخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذى يحكمه، فإن عرض خط لنفسه فليقع دائما تحت النظرة الثانية؛ فهو لهم أكثر مما هو لنفسه " بهذه الكلمات أوضح مولانا محمد عبده مقصده " بالمستبد العادل " .. والواقع أن ذلك الطرح السياسي لحاكمية الأوتوقراطى العادل لها جذور فلسفية قديمة بدأت فى اليونان عبر نظرية أفلاطون، الذى مرت بلاده أثينا بتجارب سياسية متفرده؛ حيث بدأت بأرستقراطية النبلاء وأبناء الملوك ومرت بالديمقراطية الشعبية الكاملة حتى ظهر سقراط – أستاذ أفلاطون – متنبئا بسقوط دولة الإرادة الشعبية طالما لا وصاية أخلاقية قيمية تحكم نزوات وأهواء إرادة الأغلبية فيها، فراودت الفكرة عقل تلميذه الفيلسوف العاشق " أفلاطون " ليحولها إلى نظرة سياسية لمدينته الفاضلة تحت وصاية وحاكمية " الفلاسقة " الذين يتخرجون من أكاديمية تعليمية تابعة للدولة ويتعلم فيها الجميع، ويقسمون إلى مستويات علمية بحيث يكون أقصاها مستوى الحكماء الذين يشكلون – فيما بعد – مجلسا أرستقراطيا لإدارة الدولة ووضع المعايير العامة والضوابط الأخلاقية والفلسفية التى لايتعداها أى مسئول .. والمستوى الأوسط يتكون من حراس الدولة من الشرطة وأفراد الجيش؛ والأدنى لأصحاب الحرف والمهن الصناعية ..
والمقاربة بين نظرية أفلاطون الداعية إلى أرستقراطية الفلاسفة؛ ورؤية مولانا الإمام عبده الناشدة لأوتوقراطية الحاكم العادل ليست عسيرة؛ فروح تلك النظريتين واحد وهو " حاكمية أهل العلم والعدالة " ؛ فابن رشد - وهو أحد فلاسفة الإسلام الذى وفق بين التفلسف والتدين – قد تحدث عن أربعة أنواع من السياسات؛ أولها السياسات الجماعية وهى التى تكون الرئاسة فيها بالاتفاق والانتخاب ولافضل فيها لأحد على أحد ، وثانيها سياسة الخسة وهى التى تتسلط فيها الطبقة الفاسدة على المدنيين بالتغريم والإتاوات، وسياسة جودة التسلط وهو الحكم بالأدب والفضيلة وبما توجبه السُنة،والقوة فيها للقانون وحده، والنوع الأخير هو وحدانية التسلط وهى المشار إليها حديثا بالديكتاتورية حيث فى رأى فيلسوف قرطبة تكون هى التى يحب الملك أن يتوحد فيها بالكرامة الرياسية دون غيره ؛ أى على غرار " مصر مبارك " وما شابه ...
وخلافا لما اشتهر عن تفضيل الحكم الديمقراطى؛ إلا أن الواقع هو تفضيل فيلسوف قرطبة لنظام " جودة التسلط " حيث برغم وجود نوع من الوصاية والمعيارية للحاكم فيه إلا أن السيادة في ذلك النظام للقانون وأحكامه وهو النوع الذى يحصل به صلاح حال أهل المدينة والسعادة الإنسانية، ولذلك كان هؤلاء – الحكام- أهل فضائل واقتدار على الأفعال التى تصلح للمدينة بمقتضى علمهم وحكمتهم ؛ وأهل حزم وتحرز مما شأنه أن يفسد المدينة من خارج أو من داخل ..
ومما سبق نخلص أن فكرة سيادة " الحكماء " أو دولة الفلاسفة والعلماء قد أخذت اطوارا ومسميات عديدة تغيرت فيها مواصفات الحاكم طبقا لتغير مفهوم كل زمن عن " الحكمة " ومصادرها ومعارف الحكيم نفسه ؛ فمن أرستقراطية الفلاسفة لأفلاطون مرورا بمدينة الفارابى الفاضلة التى يرأسها الفيلسوف المسلم الأدرى بالشريعة والسنة؛ والتى أخذت شكلا إجماليا عند ابن رشد بمفهوم " جودة التسلط " وانتهاءا بالمستبد العادل لإمامنا محمد عبده .. ولعل الخائض فى تفاصيل نظرية الإمام محمد عبده قد لايلاحظ أى فروق جوهرية فى الشكل المرحلى لذلك النظام مقارنة بنظام أفلاطون القائم على أكاديميته التعليمية؛ فالأول يقول عن حكم المستبد العادل " خمس عشرة سنة يثنى فيها أعناق الكبار إلى ماهو خير لهم ولأعقابهم، ويعالج ما اعتل من طباعهم بأنجح أنواع العلاج، ومنها البتر والكى إذا اقتضت الحال، وينشئ فيها نفوس الصغار على ماوجه العزيمة نحوه، ويسدد نياتهم بالتثقيف، يتعهدها كما يتعهد الغارس شجر بضم أعواد مستقيمة إلى سوقها لتنمو على الاستقامة . خمس عشرة سنة تحشد له جمهورا عظيما من أعوان الإصلاح، من صالحين كانوا ينتظرونه، وناشئين شبوا وهم ينظرونه، وآخرين رهبوه فاتبعوه، وآخرين رغبوا فى فضله فجاروه "، والثانى – أى أفلاطون – ينقل عنه ويل ديورانت قوله  "أول مايجب عمله هو البحث عن ملك صالح يسمح بأن نجري التجارب على شعبه، وواجبنا الثاني هو أن نبعد من هذه المدينة جميع الكبار فلا نستبقي منهم إلا من لا غنى عنهم لحفظ النظام وتعليم الشبان، وذلك لأن أساليب الكبار تفسد الشباب وتطبعهم بطابع الماضي ثم نعد للشباب رجالاً كانوا أو نساء منهجاً تعليمياً يمتد إلى عشرين عاماً " ..
والسؤال هو : وماذا بعد الخمسة عشر أو العشرين عاما؟ .. للحديث بقية !