الأحد، 11 مايو 2014

فى ظل عدالة محمد عبده !



منشور بالبديل الأسبوعى عدد 16 بتاريخ 7-5-2014
 
حاكم متسلط بالجودة؛ يحكم بالعدل والسُنة وتذوب مصلحته الشخصية فى مصلحة العدالة وتحت حاكمية القوانين التى هى بالأساس المعبر الأحكم لتسييس مصالح الناس، لا ديكتاتور يحكم بأهوائه ويقود الناس لما فى عزته ومصلحته هو..
حاكم يربى ويعلم المجتمع الفضيلة ويعيد أفراده ومتسلطيه إلى الرشد والصلاح، ذاك المجتمع الممتلئ عن آخره أمراضا نفسية؛ واعوجاجا فكرى وعقلى وتشوها إنسانيا جراء تعاقب المستبدين عليه وتكالب الفاسدين على ثرواته وانتزاع الطغاه لأسس كرامته.
خمس عشرة عاما، كما قدرها محمد عبده، أو عشرين مثلما يرى أفلاطون قديما؛ هى أعوام كافية ليفرز المجتمع نخبا علمية وفكرية وأخلاقية حقيقية تقود الأمّة بعد ذلك إلى الفضيلة وتوفر لها البيئة المناسبة للترقى والإصلاح .
أعوام عديدة يتعلم النشء فيها، فى أكاديمية أفلاطون، فنون الفلسفة والحكمة والطبيعيات ومختلف الفنون والقتال والأخلاق؛ فيصير النابغة منهم حكيما فيلسوفا ينضم إلى مصاف أقرانه ممن يقودون الباقيين إلى كمالهم ويوجهون باقى أفراد المجتمع إلى سبل الخير وما فيه صالح المجتمع .. وسنين طويلة يربى " المستبد العادل " أفراد مجتمعه على الفضائل ويقوّم اعوجاجهم كما أوضح الإمام محمد عبده، وقد أفرد ابن رشد طرقا ثلاث تمكّن الحاكم " الحكيم " من التعامل مع فئات المجتمع " المدينة " بغرض غرز القيم الأخلاقية بداخله، قال عنها ابن رشد فى كتابه تلخيص السياسة " إن أفلاطون قد تطرق عند حديثه عن فضيلة الشجاعة ، وعن كيفية ترسيخ وغرس الفضائل فى نفوس أهل المدينة ، إلى افضل الوسائل لفهمها وكيفية اكتسابها والحفاظ عليها من قبل أهلها ، وإلى الطرق الأكثر كمالا ، التى هى بالنسبة لنا البحث فى الغرض والغاية من معالجة مثل هذه الفضائل فى المدينة "
وهى ثلاثة مستويات لإقناع الناس بالفضيلة وأهميتها وتفعيل التزام الناس بها :
الطريقة الأولى : التعليم بالمعارف النظرية القائمة على البرهان والدليل العقلى، ويقول عنها ابن رشد " غير أن طريقة تعلم العلوم النظرية التأملية إنما هى للخواص، وهو المنهج الصحيح والقويم كما سنبين ذلك فيما بعد"
الطريقة الثانية : وهى طريقة الإقناع بما يخاطب عقلية العامة وذلك عبر "غرس الإقناع فى نفوسهم من خلال الأقاويل الخطابية والشعرية . وهذا جزء من العلوم النظرية التأملية الخاصة بخطاب الجمهور" كما يقول ابن رشد، حيث يبين مدى استعداد الناس لتلقى ذلك النمط من الإقناع بقوله " فإن إيمانهم أو اعتقادهم بمعرفة المبدأ الأول والغاية النهائية التى يجاهدون للإيمان بها على قدر استعدادهم الطبيعى، نافع فى تهيئتهم للفضائل الخلقية الأخرى للسلوك العملى ."
الطريقة الثالثة : وهى عند تعذر الإقناع بطريقتى " التعليم بالبرهان " أو " الإقناع بالخطابة والمواعظ " وهى المسماة " الإقناع بالقسر أو الإكراه " وتستخدم لمن لايؤمنون بالحق فى ذاته ومن يرفضون انتهاج العقل والحجة أو القيم الإنسانية العامة كقنوات طبيعية للتواصل وإنما لايفهمون سوى لغة القوة ولايقتنعون إلا بالإكراه، وهؤلاء لايمكن مخاطبتهم إلا بما يفهمون – أى بالقوة – وذلك ليس من دافع انتقامى أو رغبة فى العقوبة فى ذاتها، بل هو نفس المبدأ الثابت المتمثل فى الإصلاح والهداية والتربية الروحية والنفسية لبسط العدل ودفع المظالم عن المجتمع ومعالجة آثار التشوه الأخلاقى والفكرى.
 وقد فسر ابن رشد تلك الطريقة ووصف مصاديقها بدقة بقوله " وتدعى بطريقة القسر والإكراه باستعمال العقاب الجسدى . ومن المؤكد أن هذه الطريقة لا يُلجأ إليها بين أهل المدينة الفاضلة . وحتى لو كانت هذه الطريقة قد استخدمت ضرورة ، فليس للإكراه المطبق على الأمم الضالة ... لكن هذه الطريقة للتعليم بالإكراه نادرة الوقوع فى المدينة التى وصفناها فى هذه المقالة- أى المدينة الفاضلة -  أما فى الأمم الأخرى فإن هذا الأمر مقبول نوعا ما. وفى شريعتنا ، فإن ما يصدق على الدساتير التى تتبع نموذج الدساتير الإنسانية يصدق عليها ، لأن الطرق التى تعود إلى سبيل الله إنما تشابه هاتين الطريقتين ، أى الإقناع والإكراه ..  "
نعود إلى السؤال الأهم : ثم ماذا بعد أعوام " التحوّل " الخمس عشرة؟
يجيب مولانا الإمام محمد عبده قائلا " حتى إذا عرفت الأفكار مجاريها بالتعريف، وانصرفت إلى ما أعدت له بالتصريف، وصح الشعور بالتعليل، واستقامت الأهواء بالتعديل، أباح لهم- أى الحاكم- من غذاء الحرية مايستطيع ضعيف السن قضمه، والناقه من المرض هضمه، وأول مايكون ذلك بتشكيل المجالس البلدية، ثم بعد سنين تأتى مجالس الإدارة، لا على أن تكون آلات تدار، بل على أن تكون مصادر للآراء والأفكار، ثم تتبعها بعد ذلك المجالس النيابية. نعم ربما لايتيسر لرجل واحد أن يشهد هذا الأمر من بدايته إلى نهايته، ولكن الخطوة الأولى هى التى لها مابعدها، ويكفى لمدها خمس عشرة سنة، وما هى بكثير فى تربية أمَه، فضلا عن أمّة. "
بذلك تأخذ شكل الحكومة منحى قائما على " المشاركة " وتعود حرية إرادة الشعوب مرة أخرى لتأخذ دورا فعالا فى المساهمة بالقرارات، ويحتال النظام من حاكمية " المستبد العادل " إلى " الديمقراطى العادل " وهذا ماسنتعرض إليه بالتفصيل فى مقالنا القادم إن شاء الله.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق