الخميس، 1 مايو 2014

خمس عشرة سنة !



 منشور بالبديل الأسبوعى، عدد 15 بتاريخ 30-4-2014 


" مستبد يُكره المتناكرين على التعارف، ويلجئ الأهل إلى التراحم، ويُكره الجيران على التناصف، يحمل الناس على رأيه فى منافعهم بالرهبة، إن لم يحملوا أنفسهم على مافيه سعادتهم بالرغبة، عادل لايخطو خطوة إلا ونظرته الأولى إلى شعبه الذى يحكمه، فإن عرض خط لنفسه فليقع دائما تحت النظرة الثانية؛ فهو لهم أكثر مما هو لنفسه " بهذه الكلمات أوضح مولانا محمد عبده مقصده " بالمستبد العادل " .. والواقع أن ذلك الطرح السياسي لحاكمية الأوتوقراطى العادل لها جذور فلسفية قديمة بدأت فى اليونان عبر نظرية أفلاطون، الذى مرت بلاده أثينا بتجارب سياسية متفرده؛ حيث بدأت بأرستقراطية النبلاء وأبناء الملوك ومرت بالديمقراطية الشعبية الكاملة حتى ظهر سقراط – أستاذ أفلاطون – متنبئا بسقوط دولة الإرادة الشعبية طالما لا وصاية أخلاقية قيمية تحكم نزوات وأهواء إرادة الأغلبية فيها، فراودت الفكرة عقل تلميذه الفيلسوف العاشق " أفلاطون " ليحولها إلى نظرة سياسية لمدينته الفاضلة تحت وصاية وحاكمية " الفلاسقة " الذين يتخرجون من أكاديمية تعليمية تابعة للدولة ويتعلم فيها الجميع، ويقسمون إلى مستويات علمية بحيث يكون أقصاها مستوى الحكماء الذين يشكلون – فيما بعد – مجلسا أرستقراطيا لإدارة الدولة ووضع المعايير العامة والضوابط الأخلاقية والفلسفية التى لايتعداها أى مسئول .. والمستوى الأوسط يتكون من حراس الدولة من الشرطة وأفراد الجيش؛ والأدنى لأصحاب الحرف والمهن الصناعية ..
والمقاربة بين نظرية أفلاطون الداعية إلى أرستقراطية الفلاسفة؛ ورؤية مولانا الإمام عبده الناشدة لأوتوقراطية الحاكم العادل ليست عسيرة؛ فروح تلك النظريتين واحد وهو " حاكمية أهل العلم والعدالة " ؛ فابن رشد - وهو أحد فلاسفة الإسلام الذى وفق بين التفلسف والتدين – قد تحدث عن أربعة أنواع من السياسات؛ أولها السياسات الجماعية وهى التى تكون الرئاسة فيها بالاتفاق والانتخاب ولافضل فيها لأحد على أحد ، وثانيها سياسة الخسة وهى التى تتسلط فيها الطبقة الفاسدة على المدنيين بالتغريم والإتاوات، وسياسة جودة التسلط وهو الحكم بالأدب والفضيلة وبما توجبه السُنة،والقوة فيها للقانون وحده، والنوع الأخير هو وحدانية التسلط وهى المشار إليها حديثا بالديكتاتورية حيث فى رأى فيلسوف قرطبة تكون هى التى يحب الملك أن يتوحد فيها بالكرامة الرياسية دون غيره ؛ أى على غرار " مصر مبارك " وما شابه ...
وخلافا لما اشتهر عن تفضيل الحكم الديمقراطى؛ إلا أن الواقع هو تفضيل فيلسوف قرطبة لنظام " جودة التسلط " حيث برغم وجود نوع من الوصاية والمعيارية للحاكم فيه إلا أن السيادة في ذلك النظام للقانون وأحكامه وهو النوع الذى يحصل به صلاح حال أهل المدينة والسعادة الإنسانية، ولذلك كان هؤلاء – الحكام- أهل فضائل واقتدار على الأفعال التى تصلح للمدينة بمقتضى علمهم وحكمتهم ؛ وأهل حزم وتحرز مما شأنه أن يفسد المدينة من خارج أو من داخل ..
ومما سبق نخلص أن فكرة سيادة " الحكماء " أو دولة الفلاسفة والعلماء قد أخذت اطوارا ومسميات عديدة تغيرت فيها مواصفات الحاكم طبقا لتغير مفهوم كل زمن عن " الحكمة " ومصادرها ومعارف الحكيم نفسه ؛ فمن أرستقراطية الفلاسفة لأفلاطون مرورا بمدينة الفارابى الفاضلة التى يرأسها الفيلسوف المسلم الأدرى بالشريعة والسنة؛ والتى أخذت شكلا إجماليا عند ابن رشد بمفهوم " جودة التسلط " وانتهاءا بالمستبد العادل لإمامنا محمد عبده .. ولعل الخائض فى تفاصيل نظرية الإمام محمد عبده قد لايلاحظ أى فروق جوهرية فى الشكل المرحلى لذلك النظام مقارنة بنظام أفلاطون القائم على أكاديميته التعليمية؛ فالأول يقول عن حكم المستبد العادل " خمس عشرة سنة يثنى فيها أعناق الكبار إلى ماهو خير لهم ولأعقابهم، ويعالج ما اعتل من طباعهم بأنجح أنواع العلاج، ومنها البتر والكى إذا اقتضت الحال، وينشئ فيها نفوس الصغار على ماوجه العزيمة نحوه، ويسدد نياتهم بالتثقيف، يتعهدها كما يتعهد الغارس شجر بضم أعواد مستقيمة إلى سوقها لتنمو على الاستقامة . خمس عشرة سنة تحشد له جمهورا عظيما من أعوان الإصلاح، من صالحين كانوا ينتظرونه، وناشئين شبوا وهم ينظرونه، وآخرين رهبوه فاتبعوه، وآخرين رغبوا فى فضله فجاروه "، والثانى – أى أفلاطون – ينقل عنه ويل ديورانت قوله  "أول مايجب عمله هو البحث عن ملك صالح يسمح بأن نجري التجارب على شعبه، وواجبنا الثاني هو أن نبعد من هذه المدينة جميع الكبار فلا نستبقي منهم إلا من لا غنى عنهم لحفظ النظام وتعليم الشبان، وذلك لأن أساليب الكبار تفسد الشباب وتطبعهم بطابع الماضي ثم نعد للشباب رجالاً كانوا أو نساء منهجاً تعليمياً يمتد إلى عشرين عاماً " ..
والسؤال هو : وماذا بعد الخمسة عشر أو العشرين عاما؟ .. للحديث بقية !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق