الثلاثاء، 18 فبراير 2014

دروس وعبر من " معرفة ابن سينا "

ورقة بحثية بتاريخ  9/1/2013




·        الوقفة الأولى : الجهل بشيء لا يصح أن يكون دافعا للإنكار المطلق.
** قسم ابن سينا مراتب الإدراك للأشياء إلى مرتبتين : إدراك حسي وإدراك عقلى ذهنى ، والإدراك الحسي عند ابن سينا أول درجات الفهم الإنساني، ويتمّ الإدراك الحسّي بواسطة أعضاء الحسّ الخارجي كاللمس والشّم والذّوق والرؤية ، بينما الإدراك العقلى للأشياء ، لا يستخدم فيه آلة جسمية مثلما كان فى الإدراك الحسى الذى يعتمد على أعضاء معينة كالعين، والأذن وغيرهما
 ويرى ابن سينا أنّ الحواس تدرك الموجود الجزئي المحسوس بصورته ومادته، لأننا لا نستطيع التمييز بين الصورة والمادة، فالحسّ لا ينزع الصورة عن المادة من جميع لواحقها.، أما الإدراك العقلى عند ابن سينا فيعنى أن العقل يدرك الأمور المعقولة، بعد تخليصها من لواحقها المادية، فهو بذلك يجرد الأشياء من متعلقاتها المادية الخاصة بالمادة والصورة
ويخلص ابن سينا إلى كما أنه ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوس أن يعقل، كذلك ليس من شأن المعقول من حيث هو معقول أن يحس
وبتبسيط أكثر نقول إن الإدراك الذهنى أو العقلى للأشياء هو الفهم المجرد للمعنى الحقيقى للشيء دون التطرق للصورة الظاهرة لذاك الشيء أو الطبيعة المادية له .. وعلى هذا يكون الإدراك الذهنى أقوى وأعلى وأكثر عمقا ، ولأن الخالق عز وجل – كما برهن ابن سينا من قبل – لا ماهية له ، فهو منزه عن الجسمية والمادية وشئوناتها من حيث الحركة والسكون والتغير والاتصاف بحدود الزمان والمكان والتركيب الموجب بأن يكون له آلة تسمع وأخرى تبصر وثالثة تتكلم وهكذا .. فهو بذلك بسيط من جميع الجهات ، وسميع وبصير وعليم من جميع الجهات أيضا ، مما سبق يكون واجب الوجود كما قال ابن سينا (يجب ألا يكون علمه بالجزئيات علما زمانيا حتى يدخل فيه الآن والماضى والمستقبل ، فيعرض لصفة ذاته أن تتغير ، بل يجب أن يكون علمه بالجزئيات على الوجه المقدس العالى عن الزمان والدهر)
يعنى أن إدراك الله للأشياء لايتبع الإدراك الحسي أو الخيالى من العلم الحصولى للأشياء ، وإنما هو إدراك العلة التامة لمعلولاتها ، هو إدراك عقلى لحقيقة الأشياء المجردة ، لا من خلال متعلقاتها المادية الجسدية وظروف الزمان والمكان
ولكن ذلك الكلام لم يصل لأذهان العديد من الجاهلين بفلسفة ابن سينا ونظريته فى الإدراك والمعرفة ، فأخذوا ظاهر كلامه باعتبار أنه ينفى علم الله بالتفاصيل والجزئيات وأنه ينسب إليه العلم بالأمور العامة فيكون ذلك ضمنيا مدعاة لاتهامه بأنه ينسب الجهل بالجزئيات للخالق جل شأنه وتعالت قدرته ، وكان ذلك الجهل بكلمات ابن سينا وللأسف دافعا نحو تكفيره وإخراجه من ملة الدين رغم أن حقيقة الاختلاف فيما بينه وبين المخالفين له – كما يتراءى للباحث والمدقق – لايعدو كونه خلاف حول آلية أو نوع الإدراك وليس فى كونه يدرك أو لا .. فهو كما يفهم من كلام ابن سينا لايدرك الجزئيات بآلات أو أجهزة مختصة مثلما ندرك نحن – المخلوقين – وإلا ، لزم عنه جل شأنه التركيب والتغير لأن علمنا نحن المخلوقين ، كما يفسر ابن رشد "معلول للمعلوم به ، فهو محدث بحدوثه ومتغير بتغيره ، وعلم الله سبحانه بالوجود على مقابل هذا ، فإنه علة المعلول الذى هو الموجود ، فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصهما واحدة ، وذلك غاية الجهل .. وكيف يتوهم على المشائين أن يقولوا : إنه – سبحانه – لايعلم بالعلم القديم الجزئيات ، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمن الإنذارات بالجزئيات الحادثة فى الزمان المستقبل ، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان فى النوم من قبل العالم الأزلى المدبر للكل ، والمستولى عليه "
** موقف مخالفى ابن سينا عندما نسقطه على مايجرى الآن فى ساحاتنا الإعلامية والفكرية والشعبية ، نلمس أن الإشكال مازال موجودا ، والجهل بالمفاهيم مازال عنوانا حاكما يتصدر المشهد العام حاليا ، فمعانى مثل الليبرالية والدولة المدنية والدينية والإسلام والعلمانية وغيرها ، باتت عائمة وسائلة على لسان منظريها قبل خصومها ! وصار الجهل بتلك المعانى دافعا لإنكارها والتجنى عليها وجردها من معانيها الحقيقية
@ فمن خلال فلسفة ابن سينا استوقفتنا تلك الحالة من الجهل المركب عند العديد من خصومه ومعارضيه ، تلك الحالة التى ينبغى أن نتعلم منها أن الجهل بشيء لايوجب أن يكون دافعا مقيتا للإنكار والتجنى ، بل يجب أن يدفعك لمزيد من التعلم والإصرار على المعرفة التى تستلزم الرغبة فى الوصول إلى الحقائق والمصحوبة بالتجرد والتواضع اللازمين .
·        الوقفة الثانية : الانقياد الأعمى للأفكار ، يقتلها ..
**يقول الدكتور محمد عاطف العراقى " فالواقع أننا لو رجعنا إلى ماكتبه ابن سينا ، نجده يعلى من شأن اللذة العقلية على اللذة الحسية تماما كما رفع من شأن العقل على الحس فى نظريته فى المعرفة ، بالإضافة إلى إصراره على أن اللذة العقلية النفسية إذا كنا لانحس بها فى وضوح ، فسبب ذلك تعلقنا بالبدن وشهواته بحيث تكون النفس أسيره البدن . أما إذا انفصلنا عن البدن ، فإن النفس تتنبه لكمالها بعد أن كانت غير متنبهة له بسبب اشتغالها بالبدن الذى ينسيها ذاتها ومعشوقها "
تلك النظرة للذة والسعادة التى وصل إليها ابن سينا بالبرهان أوجبت عليه أن يفكر فى إمكانية عدم احتياج الإنسان إلى البدن فى الحياة الأخرى طالما أن السعادة الحقيقية هى أمر معنوى يخص النفس وحدها دون الجسد،ووجود  البدن فى تلك الحالة يعيق النفس عن إدراكها لذتها المنشودة .. وتلك الحالة تنطبق أيضا على العذاب أو الشقاء فى اليوم الآخر
ويذهب ابن سينا إلى أن ماورد على لسان الأنبياء فى الشرائع المختلفة والتى مفادها أن البعث والخلود يكون بالجسد ، أن تلك الشرائع تخاطب الجمهور العريض بغرض الهداية ، بالتالى فهى تخاطبهم بما يفهمون وتقرب إلى أذهانهم حقائق الأشياء بالتشبيه والتمثيل المادى .. فليس غرض النص الدينى تبيان حقائق الأشياء كماهى عليه ومن ثم الكلام عن حقيقة البعث والخلود " وأن جوهرها النفس وليس الجسد " .. بل الغرض هو عرض حقيقة البعث واليوم الآخر والحساب وتقريب مشاهده للأذهان عبر وضع الأمثلة المادية حتى يهتدى جمهور العامة إلى الإيمان بحتمية الحساب والجزاء الأخروى والذى يستوجب عليهم العمل الجاد فى الدنيا لنيل الثواب وتجنب العقوبة فى اليوم الموعود .
ورغم وجاهة قياس ابن سينا ونظرته لكننا لم نقصد عرض برهانه من باب التصديق الملزم أو الدعايا لما قاله ، فلسنا بصدد وضع كلامه فى ميزان الصحة والخطأ .. لكننا قصدنا من خلال ذلك الحديث عن زاوية أخرى ، أن عددا من المخالفين لرأى ابن سينا قد اعتبروا دفاعهم حول وجهة النظر القائلة بأن البعث جسمانى وروحانى فى آن واحد ، هو فى حد ذاته  دفاع عن القرآن والشريعة ضد عدو الدين والنص  " ابن سينا " ! فصار الحب الأعمى للقرآن والنص محركا للهجوم على متأولى النصوص ومفسريها ، هذا الانقياد غير العاقل أعمى الناس عن فهم مقصد ابن سينا وتساؤلاته والتى تعبر عن حب للتسامى والمعنى وإبراز أعمق  لحكمة المولى عز وجل ..
** وتاريخيا ، فمصاديق الانقياد الأعمى لظاهر نصوص الكتب المقدسة فى العصور الوسطى جعل العديد من الأساقفة وقتها يقفون ضد ما أثبته العلم بالتجربة  والعقل بالبديهة ، وذلك دفاعا عن تفسيرات ظاهرية للنصوص المقدسة يتضح فى حقيقتها أنها تفسيرات مظنونة لاتعبر عما يراد به فى النص بقدر ما هى تعبر عن وجهة نظر شارح النص نفسه ! فلا تستغرب أن أدى ذلك لزيادة التنافر بين الدين الذى مثله تفسيرات حملته لنصوصه ، وبين العلم والعقل والذى يمثله التجريبيون والفلاسفة من وجه آخر  ..
** وفى واقعنا المعاصر يقف المحب الأعمى مدافعا عن نصوص وأخبار " آحاد " صادرة عن النبى ص ولا توافق العقل وصريح القرآن وذلك بدعوى أننا ننصر الرسول !
@ ونخلص من تلك الوقفة إلى أن الحب والانقياد لاينبغى أن يكون أعمى فيقتل صاحبه الفكرة بجهله وحمقه ، بل يجب أن يكون الحب مبصرا بنور العقل الذى يستطيع من خلاله أن يتدارك الأخطاء ويميز الصواب من الخطأ ويتجه صوب نيل الحقيقة فينقاد لها و يدافع عنها بعد أن " يعقلها " .
·        الوقفة الثالثة والأخيرة : بالعقل نبدأ
أعلى ابن سينا من شأن العقل النظرى القائم على الاستنباط والاستدلال البرهانى للوصول إلى الحق المطابق للواقع ، ولكنه رغم ذلك لم يقع فى فخ الثنائية والتطرف للمنهج القياسي فى قبال النهج الاستقرائى والتجريبى .. بل دله عقله على أهمية التجربة فى المجالات التطبيقية والعملية داخل إطار الطبيعيات والمادة عندما قال "تعهَّدت المرضى؛ فانفتح عليَّ من أبواب العلاجات المقتبسة من التجربة ما لا يُوصف"  ولم تمنعه فلسفته النظرية ولا مجرباته العلمية فى أن يخوض تجربته الصوفية فى مجال المعرفة العملية وهو القائل )والعارفون المتنزهون إذا وضع عنهم درن مقارنة البدن، وانفكوا عن الشواغل خلصوا إلى عالم القدس والسعادة وانتعشوا بالكمال الأعلى وحصلت لهم اللذة العليا، وقد عرفتها)  ولم يغتر ابن سينا بعقله ولم توقعه أوهامه فى شرك إنكار الدين والشريعة أو الاستخفاف بما جاءت به من أحكام وقوانين وما هو مثبوت فيها من عقائد وثوابت وهو القائل " لقد ظهر أنه ليس شيء – أى الفلسفة – مايشتمل على مايخالف الشرع ، فإن الذين يدعونها ثم يزيغون عن منهاج الشرع إنما يضلون من تلقاء أنفسهم ومن عجزهم وتقصيرهم لا أن الصناعة نفسها توجبه ، فإنها بريئة منهم "
تلك الخصيصة المنهجية الشاملة فى المعرفة والتى تميز بها ابن سينا وتلميذه ابن رشد كان مبدأها وحاكمها " العقل " والذى دلهم فيها على درب السعادة بمعونة التجربة والنص والإشراق العملى .. لذلك وجب أن يكون شعارنا بعنوان " بالعقل نبدأ " استلهاما من عقلانية وشمولية المنهج المعرفى لابن سينا .

المصادر
1-       مذاهب فلاسفة الشرق ، د. محمد عاطف العراقى ، ط 6 دار المعارف1978
2-       قضايا فكرية واجتماعية فى ضوءالإسلام ، د.محمود حمدى زقزوق ط أولى دار المنار 1988
3-       التفكير الفلسفى الإسلامى ، د.سليمان دنيا ط أولى مكتبة الخانجى 1967
4-       ابن رشد ، فقيه الفلاسفة وفيلسوف الفقهاء ، د.محمدعمارة ط أولى دار السلام 2012

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق