الجمعة، 12 مايو 2017

ماذا بعد الحيرة والشك الصادق؟


ربما أعاني من خلال الأحداث الجارية الآن بالحيرة والاضطراب وسط أمواج عاتية من الآراء المتعددة والمتعاكسة لكل ما يجرى من أحداث، وتزداد المعاناة عندما أكتشف أنّ لكل رأي دليله ولكل مقال حجته!
ما الذي يحدث؟
هل الأزمة تتعلق بقدرتي على الفهم والتحليل وجهلي في استنباط الرأي السليم واختيار الدليل القويم ومن ثم تصبح ممارساتي منضبطة؟
أم أنّ كثرة الأفكار المتعارضة والنظريات المتباينة تجعل الحيرة والزيغ أمرا طبيعيًّا لكل صاحب عقل سليم وفطري يحاول البحث عن الحقيقة والوصول إلى الواقع في كل ما يحدث حوله؟
أم أن المسألة هي حقا أنه ” لا يوجد حق مطلق ” ولا يوجد ” واقع ثابت ” مثلما يقول بعض الناس؟ لو كان هذا صحيحًا فعمّ أبحث حينئذ؟
لابد أن هناك ثمة خلل في شيء ما يجعلني أحتار، ولا بدّ أنني أيضًا أبحث عن الحق والعدالة المفقودة والتي قد لا أجدها في الكثير ممن حولي من نظريات وممارسات… سواء تلك الممارسات شخصية أو اجتماعية أو سياسية!!
فكم من ” المتدينين ” خدعت فيهم.. و من السياسيين ” المحترمين ” صدمت في مستوى أدائهم..
وما أكثر النظريات السياسية والاجتماعية التي فشلت بالتجربة، وما أغرب المعارف التي كنت أحسبها يقينية وأبطلها العلم!
كم من أصدقائي يقولون ويفعلون العكس، وكم من رمز أخلاقي وعلمي واجتماعي وتاريخي كانوا يمثلون ” قدوتي ” في تلك الحياة، أجد معول الهدم يصل إليهم، فيسقطون من نظري الواحد تلو الآخر حتى أنّه لم يتبق من معبد القيم والأخلاق بداخلي من يمثله في الخارج ويجسده في الواقع ..
فهل ذلك البناء بداخلي كان وَهمًا بنَتْه أساطير الأولين ممن كنت أحترمهم وظهر زيفهم وبان معدنهم؟
وهل يستمر الزيف من ” مجسدي العدالة ” ليطال المبدأ ذاته؟ أي أنّ العدالة زيف والأخلاق وهم والإله عدم؟
كل ما يدور في ذهني يجعلني حتما أحاول أن أخلد إلى الهدوء المؤقت، بل والشك في كل ما يحدث بما في ذلك شك في ثوابتي الخاصة، شك لا في وجود دولة العدل أو مدينة الأخلاق والمثل بل هو شك في الأخلاق نفسها، وشك في الوجود ذاته!!
وماذا بعد الشك؟ فالشك المستمر مرض لا يبرؤه إلا شيئان؛ إما التوصل إلى اليقين، أو الانتحار.. سواء بتمويت الجسد والنفس، أو بالعيش في تلك الحياة بلا هدف ولا إيمان بأي شيء. وهي حياة رجل ميت بالفعل ولكنه جبان ولا يملك شجاعة الانتحار!!
ولكن لماذا أميت نفسي؟ لأرتاح من عذاب الشك؟
نعم فربما كان في الموت يقين!!
ربما هناك واقع آخر يجيب أسئلتي ويخرس صرخات الشكوك بداخلي ..
وإذا كان حقا ثمة واقع آخر أفهم من خلاله ما كنت فيه قبل موتي، فهل كانت هناك فرصة لأن أفهم كل ذلك وأنا في حياتي الأولى؟ أم أن الأمر محال؟ ربما لم يكن محالا وربما كان التقصير مني أنا، وربما يؤلمني الضيق والألم والندم بسبب كونى كنت قادرًا على المعرفة في عالمي الأول فتأخرت واستسلمت لشكوكي وهربت بسرعة.. بل وظننت أن قتلى لنفسي شجاعة فأدركت أن الشجاعة الحقيقية كانت في محاولة كسر شكوكي في حياتي الأولى بالبحث عن اليقين وليس بالهرب من الشكوك بالموت!!
ربما أندم حقا من ” مرارة ” الاستسهال والهروب بعد أن يفوت الأوان ..
لا … !!
من العبث أن أترك فرصة وجودي في تلك الحياة دون أن أبحث بحثًا حقيقيًّا متعمقا ومضنيا عن إجابة السؤال: هل هناك وجود ويقين وحقّ أم لا؟ ولن أؤسر لإجاباتي البلهاء بالنفي فأستسلم لها وللموت فيحيلني الموت إلى الندم!! عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة.. وهناك فرصة للمعرفة في ذاك العالم الذي أراه وأسمع من فيه، ولن أتركها وأبحث عنها في عالم آخر قد أقع فيه بعد الموت ويجردني هذا العالم من أدواتي الأساسية “البصر واللمس والتذوق والسمع والكلام والفهم والتعقل والتحليل والذاكرة والعاطفة والخيال والفنون والإبداع” …
 يااااه !! حقا إنّ لي أدوات عديدة أخاف أن أفقدها فيزداد شكي، بل أخاف ألا يكون هناك شك ولا تشكيك !! بل أخاف ألا أصير أنا !!
عدم؟  …. نعم أصير عدما …
 لا لا فإحساسي بوجودي مهم، وشكي مهم، وحواسي وعواطفي وعقلي أدوات لا أستطيع التخلي عنها.. ولكنى ومع ذلك أشك ..
أنا أشك !! إذن أنا موجود !! ولست عدما فاقدا حتى للعقل الذي يشك والشعور الذي يخاف !!!
إذن هناك واقع ووجود ..
نعم فالتفكير والشعور اللذان دلاني على وجودي حتما سيوصلانني إلى باقي أركان الوجود .. فطبعا لست وحدى وطبعا هناك إمكانية لمعرفة الوجود وحقيقته، لقد عرفت حقيقتي ومدى ثبات مبدأ ” أنى أشك ” ويقيني من ” شكّي ” أوصلني إلى يقيني في وجودي وسيوصلني إلى أن هناك حقائق مطلقة. سأحاول الوصول إليها.. سأعصر عقلي وفهمي لنَيلها وسأصل في النهاية لبعضها وإن مت قبل ذلك فسأكسب شرف المحاولة ..
لا أدرى لماذا وأنا أسطر تلك الخواطر أشعر بكوني ” إنسانًا ” يملك العقل والحماس والقوى والإرادة والأمل، وغابت عنى غربتي التي كانت تغذيها شكوكي ويأسي ومرضى وضعف إرادتي وجهلي !!
 أشعر بإيمان غريب بكوني سأواصل طريقي في المعرفة .. إدراك كل ما عداني ومعرفة نفسي وأسباب وجودي .. وقبل ذلك معرفة ” سبل المعرفة ” !!
وأنا .. من أنا؟ أنا العاجز الذى كنت أشك فأيقنت فقط بوجودي، أنا الجاهل الناقص المريض الذى أفاقته شكوكه إلى أن يؤمن بأول حقيقة بسيطة ألا وهو ” أنه موجود ” أنا الذى أدّعى جهلي بجميع الحقائق المركبة ولا أعلم منها سوى حقيقتين، الأولى وجودي، والثانية أن هناك حقائق تترتب على حقيقة وجودي، ومن ثم أبنى صرح المعرفة من البسيط إلى المركب ومن اللبنة الأولى إلى الأعمدة والأركان والنوافذ ..
وإذا كنت ناقصا للعلم والمعرفة والقدرة فحتما لم أخلق نفسي… فخلقي لنفسي يقتضي أن أكون عالما بنفسي وقادرًا على الصناعة وأنا مفتقر للحالتين، ياااااااااااااه …. سرحت للحظات في أن أكون “موجودا” و “ألا أكون” فاخترت أن أكون بل وأحببت كونى أكون وأوجَد.. إنها نعمة وهبة وهدية لا يهبها لي سوى عقل كامل يعلم بإرادتي قبل أن أريدها ويدرك ما أحب قبل أن يتوصل إليه عقلي وتهفو إليه عواطفي !! بالتأكيد ليس عقلي أنا بل هو عقل كامل يحيط بي ويدركني على الإطلاق ..
وبالتالي فمن أوجدني حتما هو يعلمني ويدرك حقيقتي ويقدر على صنعي بشكل كامل ومطلق بحيث لا يحتاج إلى آخر كي يستعين به سواء في العلم أو القدرة، وإلا كان الآخر هو صانعه وصانعي! وحتما ذلك الكمال الذى استوجب أن يوصف به صانعي لا يكون في أبى وأمي – إن كان لهما وجود أصلا! – ولا في أجيال تسبقهما، بل لا في مادة تحتاج لأبعاد الطول والعرض والارتفاع والمسافة والزمن لتتحرك وتقوم بأي عمل، وإلا لكان طولها وعرضها وتجسدها ومكانها وزمانها أولى بالصنع وأقدر على الخلق منها .. إنّ ” الكمال ” الذى صنعني مطلق ومجرد عن الاحتياج، فلا يحتاج زمانا ولا يحده مكان .. أزلي سرمدي صدر عنه وجودي والزمن والمادة والحيز الذى حولي والذى يشغله بدنى..
ماذا بعد الحيرة والشك الصادق ؟!
 إنه الإله المتصف بكل كمال..
” من وحي فلسفة ديكارت “
منشور بمركز بالعقل نبدأ للدراسات والأبحاث على الرابط الآتي:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق