الجمعة، 28 نوفمبر 2014

أين مصر؟ مشاهد مؤلمة



منشور بالبديل الأسبوعى بتاريخ 1/10/2014
والبديل الإلكترونى على ذلك الرابط 


(1)
فى زيارتى للمغرب ملبيا الدعوة المحترمة من مركز مؤمنون بلاحدود لحضور مؤتمرهم السنوى بمراكش الغالية ؛ رأيت الراحل هانى فحص المفكر اللبنانى " الشيعى المذهب " وبجواره مفكرين محسوبين على الفكر الأشعرى والبعض من المتكلمين؛ وآخرين يروجون لوجوب الرجوع إلى التقليد وسلفيون هناك وعلمانيون يقدمون حلولا تدعو للتحرر من سيطرة الفقهاء ورجال الدين على المجالات الاجتماعية والسياسية .. الكل فى  فى محراب العلم والنقاش الفلسفى والفكرى يتحلى بتواضع منقطع النظير بحيث  لاتسمع صوتا عال،  يحترمون الاختلاف كاحترامهم لأنفسهم وأفكارهم . ومع ذلك المشهد تجسد لدى رحلة السيد جمال الدين الأفغانى التى قابل فيها علماء الشيعة فى إيران ونصحهم - وكأنه منهم - بضرورة مقاومة الشاه والاستعمار ورحلته فى مصر والهند وغيرها ، وتذكرت العالم العراقى الشيعى محمد آل كاشف الغطاء وهو يستسمح الزعيم جمال عبد الناصر فى العفو عن سيد قطب " السنى " وفى نفس الوقت تموج ذاكرتى بكتابات الشيخ محمد الغزالى وهو يدافع بقوة عن كون الشيعة لايحرفون القرآن حتى ظننت أنه سيؤذن بـ " أشهد أن عليا ولى الله " فى نهاية الكلام !
وفى تلك اللحظة المثالية انتبهت على الصوت العذب  لأستاذى المفكر المغربى الدكتور الطيب بوعزة  هامسا فى أذنى : أين مصر التى تعلمنا من نخبها الفكرية وقاماتها العلمية لعقود طويلة ؟ محمد عبده ورشيد رضا وغيرهم. لماذا تضن مصر علينا بالمزيد ؟؟ فى الحقيقة لم يجد لسانى جوابا سوى أن قلت له : دعواتك بأن نستفيق مما نحن فيه ..
(2)
عدت إلى بلدى لأعرف " أين مصر " فلم أر فى إعلامنا الخاص صاحب المشاهدات الأكبر سوى مشهد متكرر لأحد المحسوبين على متعصبى الشيعة أو البهائية وهو يجر إلى ساحات المناظرات لا ليلقى مافى رأسه من أفكار؛ بل ليتحفنا بكل ماهو تجسيد لآلامه النفسية فى صورة تشنجات وسباب ولعن لسيطرة الأغلبية .. على الجانب الآخر يجلس الأخ السنى المتعصب الذى تم استقطابه لتلك البرامج هو الآخر ليشعر بلذة الانتصار لدينه ومذهبه ظانا منه أنه يدافع عن رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام بتكفير المخالفين وإهاناتهم وتخوينهم. مشهد متكرر يجعل المؤمنين بالصدفة يراجعون أنفسهم ليلتزموا نظرية المؤامرة ! نعم فهناك تعمد واضح فى اختيار جهلاء كل مذهب ومتصعبى كل اتجاه ؛ حتى عندما استضافوا الملاحدة أو المشككين عمدوا إلى تقديم أكثرهم عصبية واضطراب لكى " تسخن الحلقة " ويستمتع المشاهدون باحدى جولات صراع الديكة أو الرياضة فى الغابة !
وبكل أسى فإن المشهد الأول هو مايقال فى المحافل العلمية ولايسمعه سوى قليل من الناس، أما الثانى فهو مايقدم فى مصر بشكل شبه يومى ، فى المحفل الأول يتحدثون فى الأكاديميات الفلسفية والفكرية عن الإسهامات المبدعة لعلى شريعتى ومطهرى وباقر الصدر فى الفكر الإنسانى عموما والإسلامى على وجه الخصوص ولكن فى غمضة عين يتم حرق آلاف مؤلفة من صفحات كتاباتهم على لسان متعصب ينعت جميع الشيعة بالكفر والخطر على الأمة وتنفيذ مخططات الـ" يهود والنصارى " !  
وبجرة قلم يلغى صاحبنا الشيعى جهودا عظيمة قام بها الأفغانى ومحمد عبده والغزالى من أجل الوحدة الإسلامية والحوار المتسامح بين المذاهب،  كلمات مترامية تسيء إلى اتجاه أفرز أبا حامد وابن رشد والفخر الرازى والمسيرى ومصطفى محمود وطه عبد الرحمن وطه العلوانى وغيرهم .. لاعتقاده أنه بذلك " ينتصر " لأهل بيت النبى ويكسر معاول الظلم الأموى انتقاما من حوالى ثمنمائة مليون مسلم سنى لاجريمة لهم فى قتل مولانا الحسين الشهيد فى الوقت الذى كان أغلب أنصار الحسين كالفئران فى بيوتهم حال تلك المعركة الخالدة !
 كيف صرنا ألعوبة فى يد إعلام يجعل من اختلافنا الثقافى والدينى والمذهبى مادة يستعملها ليزيدنا اشتعالا فيجنى من غضبنا وسبابنا وحرقة دمائنا المزيد من الأموال والإعلانات و النجاح ؟ وكيف صارت هذه ثقافة وقع فيها السنى والشيعى والمسيحى والبهائى والملحد ممن تكاد تنجرح حناجرهم من كثرة صياحهم ضد الأمريكان واتهامهم المخالفين بالعمالة والخيانة ! فى حين يقع أكثرهم أسرى لعمالة التسويق والإعلانات وسيطرة ثقافة مادية تستبيح كل شيء "  مشاعرنا وعصبياتنا واختلافاتنا " فتنميها وتقويها مثلما استعملت أجساد نسائنا من قبل وبراءة أطفالنا من بعد ؟ بل كيف يهتفون جميهم : الموت لأمريكا التى تشن حروبا طائفية وتريد تقسيم أوطاننا ثم تجد نفس هؤلاء الأذكياء يقاومون الطائفية بالطائفية والعصبية بالنرفزة؟ لاعجب منهم إذن فى الاستعانة بالأمريكى من أجل تخليصهم من الإرهاب الطائفى الذى باركه الأمريكى ولا مجال للاستغراب عندما يستعينون بالمخابرات الأمريكية ليشكوا إليها مخططات أجهرة الاستخبارات -الأمريكية - أيضا فى تفتيت وتقسيم المنطقة !
وتجد من يحذر من الحداثة ويطنطن بعبارات المسيرى حول زمن سيطرة الثقافة المادية فى عصرها السائل الحالى هو نفسه مصاب بالعته الفكرى والانفصام المعرفى، فإما ينساق إلى دعاوى الحريات بمنظورها التغريبى ويسيل لعابه عند التعرض لمغريات تلك الثقافة على المستوى الإعلامى والاجتماعى والوظيفى، أو  قد يجر " كالمنوم مغناطيسيا " إلى صراعات عنصرية ومذهبية وهمية، أو قد تجد الحالتين فى شخص واحد  ليكتمل لديه الانفصام النفسي والثقافى إلى حالة يسميها هو بنفسه أزمة " فقدان الهوية " ويحاربها فى الآخرين ..  وهو عنده جوا  !!

فى معرض الحديث عن سبب تلك الأزمة وغيرها، لا أنكر أن ثمة استعمار طويل وقف وراء الكثير مما يحصل الآن لمجتمعنا منذ أن قسموا أراضينا بهذا الشكل، ثم يعودون الآن بشكل آخر وثوب جديد باسم الحرب على الإرهاب لتقسيمها مرة أخرى ولكن أيضا وكما قال الحكيم اليونانى سقراط أن منشأ كل الرذائل فى الجهل .. فقد قالها والحمد لله قبل أن يتفوه بها الحسين بن على ومطهرى والحسن البصرى ومحمد عبده وفولتير ! وبهذا أكون هربت من قماءة التصنيف وبشاعة الاستقطاب الجاهل .. على الأقل فى تلك الجولة !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق