الجمعة، 2 يونيو 2017

البخاري في الميزان "د. يحيى جاد"



سألني :
ما حقيقة قولهم : "أجمعت الأمة على أنَّ أصحَّ كتابٍ، بعد كتاب الله، صحيحُ البخاري" ؟
والجوابُ :
* أولاً :
نحن لا نُسَلِّم أصلاً بقضية الإجماع أصولياً، فنحن نشكك (بل نَقْدَحُ) في الإجماع :
- في إمكان وقوعه ابتداءً،
- وفي العلم به إذا وقع،
- وفي حُجيته إذا عُلِمَ.
وليس يسمح المقام ههنا ببسطِ شيءٍ من ذلك، ولا بمناقشة ما استدل به جمهور العلماء على حجية الإجماع.
* ثانياً :
الجملة المسئولُ عنها أعلاه : كَذِبٌ صُراحٌ؛ لأنها حَصَرَت "أمةَ المسلمين كلها" في "جماهير متأخري علماء مدرسة/ تيار أهل السنة والجماعة".
بينما مدارس/ تيارات : المعتزلة، والشيعة الزيدية، والشيعة الإمامية، والإباضية، والخوارج، وغيرهم، عن بَكْرَةِ أبيهم، جميعاً، إجمالاً، لا يَنظرون إلى صحيحَيْ البخاري ومسلم إلا كما يَنْظُرُ متأخرو علماء أهل السنة والجماعة للسنن الأربعة (سنن الترمذي والنسائي وأبي داوود وابن ماجة)، فهم - أقصد المعتزلةَ والشيعةَ وكلَّ مَن ذكرتُ آنفاً- لا يُسَلِّمون بصحة أحاديث الصحيحين، وإنما ينظرون إليهما نَظْرَتهم لأي كتابِ حديثٍ/ رواياتٍ، فيه الصحيح والضعيف والموضوع.
* ثالثاً :
مُتَقَدِّموا علماء تيار أهل السنة والجماعة (سواء من المحدثين أو الفقهاء أو المتكلمين أو المفسرين) لم يتفقوا على "صحة كل أحاديث البخاري المُسْنَدَة المرفوعة"، بل انْتَقَدَ/ رَدَّ/ ضَعَّفَ الكثيرون مروياتٍ مُسْنَدَةً مرفوعةً في صحيح البخاري، سواءٌ كان ذلك قبلَ وجود البخاري نفسه أو بعدَه (حيث إن أكثر مرويات البخاري في صحيحه كانت مُتداوَلَةً وشائعةً بين أهل الرواية والعلم والفقه قبل أن يجمعَ البخاري صحيحَه، وكثيرٌ منهم انتقد/ ردَّ/ ضَعَّفَ عدداً منها، سواءٌ قبلَ أنْ يجمعَ البخاري صحيحَه أو بعدَه).
وهذا يعلمه كلُّ مَن تعمقَ شيئاً في ميدان الدراسات الحديثية (وخاصةً : كتب علوم/ مصطلح الحديث، وكتب الرجال والجرح ولتعديل، وكتب العِلَل، فضلاً عن الكُتُب التي أُفْرِدَت - قديماً وحديثاً- في نقد وتضعيف أحاديثَ في البخاري ومسلم).
* رابعاً :
ما يزالُ بعضُ كبارِ علماء المسلمين، من مختلف المشارب والمدارس والتيارات الفكرية، السنية وغير السنية، والحديثية والفقهية والكلامية والتفسيرية وغير ذلك، قديماً وحديثاً، ينتقد/ يَرُدُّ/ يُضَعِّف أحاديثَ/ مروياتٍ في الصحيحين.
وهذا يعلمه كلُّ مَن تعمقَ شيئاً في ميدان الدراسات الإسلامية عموماً، والدراسات الإسلامية "المقارِنَة" خصوصاً.
* خامساً :
مِن أشنع وأقبح العبارات والتعبيرات : أنْ يُوضَعَ "كتابٌ بشري" مَوْضِعَ المقارنةِ مع "الكتاب الإلهي الخاتم"؛ حيث :
كيف يجوز في ميزان العقل المسلم أن يُوازَنَ أو يُقارَنَ "فِعْلُ البخاري البشري في رواية وتصحيح الأحاديث" بـ "الفعل الإلهي في حفظ اللهِ لكتابه" ؟!
وكيف يمكن أصلاً تَصَوُّرُ أنْ يُوضَعَ كتابٌ بشري - أياً مَن كان مؤلفه، وأياً ما كان محتواه- على مسطرةٍ واحدةٍ مع كتاب الله المجيد، بحيث يَنْزِلُ هذا الكتابُ البشري درجةً، ويَصْعَدُ كتابُ الله درجةً ؟!
وعليه، فمَن شاء أنْ يقول العبارة أعلاه :
أ- فليقل : "البخاري : أصحُّ كتابِ مروياتٍ عن النبي (عليه الصلاة والسلام) عند جُلِّ علماء مدرسة/ تيار أهل السنة والجماعة".
وقولي "جُل" : احترازٌ؛ لأنَّ :
• مِن علماء هذا التيارَ - سواء قبلَ وجودِ صحيحِ البخاري أو بعدَ وجوده- مَن يُقَدِّمُ مُوَطَّأ مالِكٍ - أعني المُسْنَدَ المرفوعَ منه- على ما عداه، بإطلاقٍ وتعميم،
• كما أن منهم مَن يُقَدِّم صحيحَ مسلمٍ على صحيح البخاري، سواء بإطلاق تعميم، أو باعتبارات دون أخرى.
ب- وليس : "أجمعت الأمة على أن البخاري أصح كتابٍ على وجه الأرض بعد كتاب الله" ! فما أقبح وأشنع وأكذب هذه الأخيرة، على شُهرتها العريضة !
* سادساً :
تعامُلُ أكثرِ المسلمين المعاصرين مع صحيح البخاري تتوزعه نزعتان رئيسيتان - إجمالاً- ، هما : "نزعةُ تقديسه"، و"نزعةُ تدنيسه"، واللهَ نسأل أن يُعافينا من هذين الداءَيْن العُضالَيْن.
* سابعاً :
عندي، أنه :
ليس كلُّ ما نُسِبَ للنبي صلى الله عليه وسلم : صَحَّت نسبته،
وليس كلُّ ما صحت نسبته : صَحَّ فهمه،
وليس كلُّ ما صَحَّ فهمه : صَحَّ وَضعُه في موضعه.
و"صحيحُ البخاري" - عندي- : هو "اجتهادُ الإمامِ البخاري" في تصحيح ما ذَكَره فيه من أحاديث، لا أكثر ولا أقل.
وأكتفي بهذا القدر من الإشارات الدقيقة المُرَكزة المُخْتَصَرة،
والله تعالى أعلى وأعلم.
[يحيى جاد]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق